في خضمّ مؤتمر (الآثار والتراث رمز الحضارة وهويّة الأمم).. نائب رئيس مؤسسة الدليل يلقي كلمة بالمؤتمر

2018 December 05

ألقى سماحة الشيخ فلاح سبتي نائب رئيس مؤسّسة الدليل، ورئيس اللجنة الفكريّة في مؤتمر حفظ الآثار والتراث الّذي أقامته العتبة الحسينيّة المقدّسة في كربلاء الحسين (ع) بتأريخ ۲٥/۱۱/۲۰۱۸، وفيما يلي نصّ الكلمة:

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف الخلق محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

لا يختلف اثنان في أنّ سرّ تميّز الإنسان عن سائر الموجودات في عالمنا هذا هو في كونه كائنًا مفكّرًا يمكنه أن ينتقل من معلوماتٍ حاضرةٍ لديه؛ ليكتشف من خلالها معلوماتٍ أخرى لم يكن يعلم بها؛ ولذلك كانت هذه العمليّة هي المولّدة للفكر الإنسانيّ بجميع أبعاده النظريّة والعمليّة.

ومن الواضح أنّه لا يمكن للإنسان أن يضع أيّ برنامجٍ أو خطّة عملٍ نافعةً ومثمرةً في أيّ موضوعٍ إلّا بعد معرفةٍ صحيحةٍ ودراسةٍ واقعيّةٍ في البناء لذلك الموضوع من جميع أبعاده، إذ إنّ السلوك الإنسانيّ الاختياريّ ينطلق من مبادئ علميّةٍ، فالعلم بالمبدإ الأوّل للفعل الاختياريّ ومعرفة حسن الفعل وقبحه هو المحرّك لإدارة الإنسان والباعث لتحقيقه على أرض الواقع.

فالإنسان لا يستغني عن تحصيل المعرفة في كلّ خطوةٍ يخطوها، وفي كلّ عملٍ يقوم به، فعن أمير المؤمنين عليٍّ (ع) أنّه قال في وصيّته لكميل بن زيادٍ النخعيّ: «يا كميل، ما من حركةٍ إلّا وأنت محتاجٌ فيها إلى معرفةٍ». ولأجل هذه الحقيقة الواضحة كان المحور الفكريّ من ضمن محاور هذا المؤتمر الّذي تقيمه العتبة، والّذي يهتمّ بموضوع الآثار والتراث؛ لأجل استنطاق جميع مصادر المعرفة البشريّة، ومعرفة رأيها في هذا الموضوع؛ ولهذا عمدت اللجنة المعنيّة بالمحور الفكريّ إلى تقسيم هذه إلى عناوين أسياسيّةٍ على ضوء المصادر المعتمدة للمعرفة البشريّة الّتي يمكن أن يستفاد منها في تحليل عنوان المؤتمر وتحديد التصرّف الصحيح تجاهه، ابتداءً من العقل والعرف العقلائيّ الإنسانيّ وانطلاقًا إلى الوحي الإلهيّ، بدءًا من الأديان السابقة وانتهاءً بالإسلام باعتباره خاتم الأديان وأكملها.

وقد ورد إلى هذه اللجنة مجموعةٌ من الأبحاث تمّ انتخاب سبعة عشر منها، وتم إلقاؤها ومناقشتها خلال الجلستين البحثيّتين المقرّرتين في المؤتمر، وقد انتهينا إلى نتائج علميّةٍ وفكريّةٍ كبيرةٍ يمكن أن تعدّ أساسًا لمثل هذا الموضوع، كما يمكن تطويرها من أجل الاستفادة منها في هذا الشأن.

ولا يختلف اثنان على أنّ الإنسان يتميّز على باقي الموجودات في هذا العالم بالعقل، إذ إنّه الإدارة المعرفيّة التي أودعها الله سبحانه تعالى في الفطرة الإنسانيّة، وظيفته فهم الأمور وأدراك الحقائق وإثبات أحكامها أو نفيها، إمّا بنفسه أو بالاستفادة من مناشئ المعرفة والإدراك الأخرى، كالحسّ والتجربة، أو مصادر المعرفة الّتي منّ الله بها عليه كالوحي وما خلّفه من نصٍّ دينيٍّ.

وقد ذهب الإنسان في مختلف أدواره التاريخيّة يترجم تلك العبقريّة عبر ما كان يؤلّفه من كتبٍ تعبّر عن نتاجه الفكريّ والعلميّ، أو ما يصنعه بمهاراته وحرفه، كالبناء أو النحت والنقش أو صناعة مختلف الأدوات الّتي يحتاجها في حياته، وأصبح ما يقدّمه في ذلك عنوانًا يحكي عن عبقريّةٍ الأمة التي ينتمهي إليها ورقيّها عبر التاريخ.

وكما أنّ للإنسان جانبًا مادّيًّا، فكذلك له جانبٌ روحيٌّ عظيمٌ تمثل بالإيمان بخالقه وكتبه ورسله، وكان بمقتضى طبعه وفطرته، يميل إلى احترام كل ما له صلةٌ بهذا الجانب، وقد سخّر نتاجه الفكريّ والمهنيّ في خدمة ذلك. ومن مجموع كلّ هذه المفردات وهذه المعالم في حياته يتكوّن تراث الأمّة العلميّ والثقافيّ، وتشمخ آثارها عبر الزمن؛ ولهذا نجد الإنسان من حيث هو إنسانٌ يحترم تراثه وآثار أمّته ويعتز بها مهما امتدّ به العمر؛ لأنّه يعبّر عن الدليل الملموس الّذي يدلّ على عبقريّة تلك الأمّة، فكانت سيرة العقلاء في مختلف الأمم جيلًا بعد جيلٍ تجري على احترام تلك المعالم والحفاظ عليها، كما أنّ الأديان عمومًا تؤكّد على ضرورة الحفاظ على المعالم الأثريّة والتراثيّة، وخصوصًا تلك المتعلّقة بالأولياء والصالحين باعتبارهم القدوة الحسنة للبشريّة.

فالمعالم الدينيّة والحضاريّة الإنسانيّة تمثّل جسر التواصل بين الأجيال؛ لأخذ العبر والدروس من تلك الآثار، وكذلك الإسلام الّذي يمثّل الرؤية الإلهيّة الخاتمة الّتي هي أكمل الرؤى الدينيّة، إذ كان الوحي ومعطياته في الإسلام هو المعين والمرشد لعقل الإنسان؛ لهدايته في الوصول إلى الموقف الصحيح في جميع جوانب حياته.

وقد حاول علماء الإسلام على اختلاف مذاهبهم استنطاق معطيات الوحي من الآيات والأحاديث الشريفة في تحديد الوظفية في هذا الموضوع، أعني التراث والآثار، وكان هناك شبه إجماعٍ عند جميع مذاهب المسلمين على ضرورة حفظ المعالم الأثريّة والأضرحة الدينيّة، وقد خالف هذا الإجماع فرقة الوهّابيّة، إذ عمدوا وبمختلف الذرائع إلى إهانة المواقع الأثريّة وهدمها، خصوصًا المعالم الإسلاميّة وأضرحة الأولياء والصالحين، وكان من تلك المواقع الأثريّة المتعلّة بالنبيّ وأهل بيته وأصحابه مقبرة البقيع الّتي تضمّ قبور الكثير من أئمّة أهل البيت وأزواج النبيّ (ص) والصحابة.

ونظرًا لما تمثّله هذه المقبرة والمعالم الأثريّة في المدينة المنورة للكثير من المسلمين؛ نطلب من اللجنة التحضيريّة لهذا المؤتمر أن تخصّص فقرةً خاصّةً من توصيات المؤتمر بتلك المواقع ومقبرة البقيع، وذلك بالعمل على طرحها في المنظّمات والمؤسّسات الدوليّة المختصّة؛ لأجل إدانة ما نالها من تهديمٍ ومحوٍ، والمطالبة بإعادة بنائها وحفظها من التخريب والإهانة.

ولا يسعني في الختام إلّا أن أقدّم شكري لجميع العاملين والباحثين في هذا المؤتمر، والسادة الحضور من الباحثين وغيرهم، والحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمّدٍ وآله الطاهرين.

شاهد الخبر في رابط التالي:

https://aldaleel-inst.com/392