يعترف أصحاب مذهب نسبيّة المعرفة بوجود الواقع الحقيقيّ كما يعترفون بإمكان التعرّف عليه، ولكن المعرفة عندهم لايمكن أن تكون مطلقةً؛ لوقوعها دائمًا تحت تأثير الخصائص الذاتيّة للباحث، وما يحمله من خلفيّاتٍ فكريّةٍ وثقافيّةٍ، وما يعيشه من ظروفٍ ومتغيّراتٍ، فلا تكون متمحّضةً في الجانب الموضوعيّ للحقيقة المبحوث عنها، فكلّ باحثٍ يدرك من الحقيقة جانبًا معيّنًا بحسب ما يمتلكه من مؤهّلاتٍ، وليس بالضرورة أن يكون مخطئًا للواقع لو خالفنا في ذلك الإدراك، وليس لنا الحكم بخطئه؛ لاحتمال أن يكون كلٌّ منا قد أدرك جانبًا يختلف عن الآخر من تلك الحقيقة الواحدة، ولذلك تكون معارفنا دائمًا ناقصةً ولا يمكن لنا إدراك الحقيقة على إطلاقها.
ويؤكّد هؤلاء على الطابع النسبيّ في كلّ الحقائق الّتي يكتشفها الإنسان؛ وذلك لأنّ العقل البشريّ هو طرف عملية الاستكشاف بالإضافة إلى نفس الحقيقة المستكشفة، وهو خاضعٌ للظروف والشرائط المكتنفة لعملية الاستكشاف دائمًا، ولمّا كانت هذه الظروف والشرائط تختلف من حالٍ إلى حالٍ بالنسبة للفرد الواحد، ومن فردٍ إلى فردٍ آخر، كانت الحقيقة المستكشفة عند أصحاب كلّ مجالٍ من مجالات العلم والمعرفة حقيقةً بالنسبة إلى أصحاب ذلك المجال الخاصّ بما يكتنفه من ظروفٍ وشرائط (1).
والقائلون بالنسبيّة كثيرون، سواءٌ في الزمان الماضي أو الحاضر، قال ابن حزمٍ: (السفسطائيّة مبطلو الحقائق، وهم على ثلاثة أصنافٍ: فصنفٌ منهم ألغوا الحقائق، وصنفٌ منهم شكّوا فيها، وصنفٌ منهم قالوا هي حقٌّ عند من هي حقٌّ عنده، وباطلٌ عند من هي باطلٌ عنده)(2).
إنّ القول بنسبيّة المعرفة يتوجّه بالأساس إلى المعارف الإنسانيّة والدينيّة، إذ يدعو إلى التمرّد على القوانين والضوابط المعرفيّة والمنطقيّة الّتي وضعت لضبط الحركة الفكريّة للإنسان، ليصبح كلّ إنسانٍ قادرًا على إعطاء وجهة نظره في هذه العلوم، ويجب على الآخرين احترامها، وأمّا العلوم الرياضيّة والطبيعيّة فالكلّ يعترف أنّ لها موازين موضوعيّةً صارمةً لا تخضع لوجهات النظر المختلفة، وليست هي مدار بحثٍ إلّا من قبل المتخصّصين فيها، ولا تحترم فيها أيّ وجهة نظرٍ من دون دليلٍ محكمٍ على طبق تلك الضوابط.
وقد انتشرت النسبيّة بشكلٍ واسعٍ بعد ديكارت (1596 –1650) في الغرب، وقد استهدفت العقائد والعلوم الدينيّة بشكلٍ كبيرٍ، وهذا هو أخطر أثرٍ في هذا المذهب، حيث جعلوا الاعتقاد بالحقيقة المطلقة نوعًا من الجهل والتعصّب والانغلاق، وقد ولّد هذا المذهب نظريّة تعدّد القراءات في فهم النصّ الدينيّ، ودخالة تطوّر العلوم والثقافات في فهم الدين، ولم يعنوا بذلك التراكم الكمّيّ للمعرفة الدينيّة وزيادتها بحسب تطوّر العلوم وتعمّق فهم الإنسان عن الواقع، بل تبدّل النظريّات الدينيّة بحسب تلك المتغيّرات، بحيث تصبح نظريّاتٍ عصريّةً تنسجم مع روح العصر الّذي يعيشه الإنسان، وتهجر تلك النظريّات القديمة الّتي كانت تعبّر عن مستوًى أدنى من الفهم للنصوص الدينية (3).
وفي مقام توضيح حال هذه النظرية نقول إنّها نظريّةٌ تنسجم مع قولهم إنّ جميع المعارف البشريّة معارف ظنّيّةٌ، حيث إنّ الظنّ فيه احتمالٌ لتحقّق الطرف المرجوح، وربّما يصبح راجحًا عند تبدّل فهمنا عن قضيّةٍ معيّنةٍ، وفي كلّ استدلالٍ تكون نتيجته تابعةً لأخسّ مقدّماته كما يقال في المنطق، فإذا كانت المقدّمات قابلةً للتبدّل والتغيّر كانت النتيجة تابعةً لذلك قطعًا، فتضيع الحقيقة المطلقة في ظلّ هذه التغيّرات والتبدّلات، ولعلّ انتشار هذا المذهب في العصر الحديث من انعكاسات المنهج التجريبيّ والاستقرائيّ الّذي نجح نجاحًا باهرًا في العلوم الطبيعيّة، ومختلف الصناعات في هذا العصر، فلمّا لوحظ نجاحه في هذا المجال عمّمت قواعده ومعطياته على كلّ جوانب المعرفة البشريّة؛ ظنًّا منهم بأنّه هو المنهج الأقوم في كشف الحقائق، والحال أنّ المهم في هذا الجانب من المعرفة - العلوم الطبيعيّة والصناعات - هو الجانب العمليّ التطبيقيّ، الّذي يكتفي العقل فيه بالظنّ الغالب الّذي يستحكم بالاستقراء الناقص وتكرار التجربة عدّة مرّاتٍ.
ولكن من الواضح أن هذا لا يكفي في الجانب العقديّ والدينيّ من المعرفة، بل لا بدّ أن يصل الإنسان إلى اليقين الّذي لا يحتمل معه الطرف الآخر لتستقيم عقائده وما يترتّب عليها من معارف دينيّةٍ وسلوكيّةٍ، ويتحقّق الإيمان الراسخ القويّ، وهذا ما يدعو الإنسان إلى البحث عن طريقٍ يحقّق هذا النوع من المعرفة وهو موجودٌ؛ فإنّ البدهيّات العقليّة وما يترتّب عليها، والضروريّات الدينيّة - بعد تنقيح العقل لأسسها - وما يترتّب عليها من نتائج عند إدخالها في صورة قياسٍ يقينيٍّ، تمنع تسرّب النسبيّة إليها، وإن حصل خطأٌ ما فسيكتشف بالتحقيق وإعادة الاستدلال وتحديد مواطنه وعلاجها.
فإن أصرّوا على إنكار الإطلاق في البدهيّات وتسرّب النسبيّة إليها، نقول لهم إنّ نظريّة نسبيّة المعرفة وكلّ المقدمات الّتي استنبطت منها هي معارف بشريّةٌ، فلا بدّ أن تكون خاضعةً لهذه النظريّة غير خارجةٍ عنها، بل هي أولى بشمول النسبة لها من بدهيّات العقل، فتكون هذه النظريّة شاملةً لنفسها وللأسس الفكريّة الّتي ابتنت عليها، فتبطل هذه النظريّة نفسها بنفسها؛ ولهذا لا تكون نظريّةً كلّيّةً مطلقةً، ولا يمكن تحكيمها على الفكر البشريّ بشكلٍ كاملٍ.
الهوامش:
1 - انظر: فلسفتنا، السيد الشهيد محمد باقر الصدر، ص125.
2- الفصل، ابن حزم، ج4، ص14.
3- انظر: القبض والبسط في الشريعة، عبد الكريم سروش، ترجمة: د. دلال عباس، ص72، تحت عنوان (المعرفة الدينية نسبية وعصرية).
شاهد الخبر في رابط التالي:
https://aldaleel-inst.com/69