العقل هو الأداة المعرفية الذاتية المهمة في التعرف على الواقع وتحليله، ومعرفة الحق من الباطل في الاعتقاد، والحسن من القبيح في الأفعال، ولذا ورد التأكيد على دور العقل والتعقل الكبير في لسان الشرع المبين، فآيات القرآن الکريم تمتدح المتعقلين كثيرا، وتوكد على أن مظاهر الخلق إنما هي آيات ودلائل لهم، وكثير من الآيات تخاطب أولي الألباب تشريفا لهم، قال تعالى: { ...وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب}(1)، والروايات أصرح في بيان أهية دور العقل، فمثلا في الرواية عن الإمام الكاظم (عليه السلام): (يا هشام إن لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة وحجة باطنة، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة (عليهم السلام)، وأما الباطنة فالعقول. يا هشام، إن العاقل الذي لا يشغل الحلال شكره، ولا يغلب الحرام صبره...) (2).
معنى العقل
تستعمل مفردة العقل استعمالات متعددة في معان متباينة، قد تسبب الإبهام بعض الشيء، وقد توقع المغالطات أحيانا؛ ولذا وجب التنبيه عليها:
فالعقل في لسان الفلاسفة هو الجوهر المفارق للمادة ذاتا وفعلا، ومن الفلاسفة من يقول إن العقول بهذا المعنى هم الملائكة بلسان الشارع (3).
وقد يطلق العقل ويراد به مجموعة متبنيات العرف السائد والقضايا المشهورة عند جماعة أو أمة من الأمم، وكثيرا ما يبنى فيه على التسامح عن التفكير التدقيقي، فيطلق عليه البعض العقل العرفي(4)، والعاقل عندهم هو من يلتزم بتلك المشهورات والأعراف.
وقد يطلق ويراد به طريقة ونمط التفكير المشترك عند جماعة أو أمة معينة، متضمنا كل ما يؤثر في ذلك النمط التفكيري ويحدده، فيعكس ويفسر الظواهر الاجتماعية التي يلتزمون بها، وتحكم طريقة حياتهم وتعاملهم فيما بينهم ومع الآخرين، وعادة ما تضاف مفردة العقل هنا إلى تلك الأمة والجماعة، فيقال العقل العربي أو العقل الغربي، أو العقل البدوي وهكذا، وتجد هذا الإطلاق يستعمل كثيرا في علم الاجتماع الحديث.
وأما العقل الذي هو أداة من أداوات المعرفة فهو قوة النفس التي بها تدرك المعاني والمفاهيم المجردة الكلية، وبها تستفيض النفس من عالم المبادئ العلوي، لتتولد الصور العلمية فيها وتتكون العلوم(5)، وبه تحصل مرتبة التعقل في الإدراك التي تميز الإنسان عن سائر الحيوانات فيقال عنه إنه حيوان ناطق.
ولهذه الأداة الدور الأساسي في حصول العلوم التصورية والتصديقية، والتميز بين الحسن والقبيح من الأفعال والخير والشر.
أقسام العقل المعرفي
للعقل عدة انقسامات تذكر عادة في الأبحاث المختلفة، فلا بد من معرفتها ومعرفة المقصود منها، وأهم تلك التقسيمات، هي:
العقل البسيط والعقل المركب
ينقسم العقل الى عقل بسيط، وعقل مركب، وهو تقسيم للعقل بحسب المدركات التي عنده، فالعقل في رتبة منه تكون مدركاته بدهية أو قريبة منها، تكون مركوزة عادة في النسيج الذهني البشري حتى لو لم يشعر الإنسان بها، ولكنه يفكر ويستنتج على ضوئها، وهو مستوى مشترك بين كل الناس، ولذلك ركزت الهداية العامة الإلهية على هذا المستوى من التفكير، وقد يسمى في لسان الشارع بالفطرة، أما العقل المركب فهو العقل الاستدلالي المعقد القادر على التركيب بين النتائج غير البدهية والاستنباط منها، وهو مرتبة تحصل في من درس وتخصص في علم ما عادة.
ب- العقل العام والعقل البرهاني
العقل العام هو العقل الذي يستفيد في استنتاجاته من كل القضايا، والمستفادة من مختلف أدوات المعرفة الحسية والتجريبية والعقلية والأخبار وغيرها، وهو الحاكم المطلق في كل الاستنتاجات في العلوم المختلفة، فهو الذي يثبت المحمول للموضوع أو يسلبه عنه في مطلق القضايا الحملية، وهو الذي يحكم بالاتصال والانفصال أو عدمهما في القضايا الشرطية وهكذا، فقول الفقهاء مثلا (الصلاة واجبة) حكم العقل العام، أي أن هذا ما اكتشفه العقل بالاستفادة من المقدمات الشرعية، كقوله تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا} (6).
وأما العقل البرهاني فهو العقل الخاص الذي لا يستفيد في قياساته واستدلالاته إلا من القضايا العقلية، سواء البدهية منها أو النظرية التي ترجع إلى البدهيات، وهو يستعمل الاستدلالات العقلية البحتة.
ج- العقل النظري والعقل العملي
وقد اخلتف في حقيقة هذين القسمين ومدركاتهما، فهل هما قوتان للنفس حقيقة(7) أو قوة واحدة وتكثرهما اعتباري بتبع تكثر طبيعة المدركات(8)، وهل أن كلاهما للإدراك أو أحدهما فقط وهو النظري والثاني للعمل فقط(9)، وإذا كان كلاهما مدرك فما هي طبيعة مدركاتهما، هل هي ما هو كائن - أي ما ينبغي أن يعلم – للنظري، وما ينبغي أن يكون - أي ما ينبغي فعله - للعملي(10)، أو أن النظري يدرك جميع القضايا والعلوم والعملي يدرك القضايا التي تكون مبدأ لتحرك البدن في الفعل الاختياري، وهي القضايا العملية الجزئية(11)، وغيرها من المسائل التي وقع فيها الخلاف والاختلاف بين المحققين.
وأما ما هو المشهور عند الحكماء، فالعقل النظري هو قوة النظر في جميع العلوم، فهو يدرك القضايا النظرية والعملية الكلية والجزئية، فالقضايا الكلية يدركها بذاته، والقضايا الجزئية يدركها بمعونة آلاته، وأما العملي فمدركاته هي القضايا العملية الجزئية من قبيل: هذا الفعل يجب فعله، أو هذا الفعل يجب تركه؛ لأجل الوصول إلى الأغراض التی يختارها الإنسان بتوسط افعاله الاختيارية، وذلك بالاستعانة بمدركات العقل النظري، ووضيفته تدبير البدن(12).
وحقيقة ذلك أن القضايا العملية الجزئية هي المحركة للإنسان لا الكلية، فتكون هذه الصورة الجزئية علة لترشح الشوق ثم انقداح الإرادة نحو ذلك الفعل، ولعله لذلك سمي بالعقل العملي، وكماله في الإنسان أن ينفعل عن مدركات العقل النظري في تحديد مايجب فعله أو تركه، لا عن الصور الوهمية والخيالية التابعة لميول القوة الغضبية أو الشهوية، ولعله يمكن من هنا نفهم قول أمير المؤمنين (عليه السلام): (إن الله - عز وجل - ركب في الملائكة عقلا بلا شهوة، وركب في البهائم شهوة بلا عقل، وركب في بني آدم كليهما، فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة، ومن غلبت شهوته عقله فهو شر من البهائم)(13).
وظائف العقل
لکلا قسمي العقل - النظري والعملي - وضائف خاصة، وقد تقدم أن وظيفة العقل العملي عند مشهور الحكماء هو تدبير البدن لكونه آلة النفس لذلك، وأما العقل النظري فله وظائف في مجال التصورات، وأخرى في مجال التصديقات.
أما في مجال التصورات فالموجودات إما محسوسة الذوات في الوجود أو غير محسوسة، وغير المحسوسة هي التي لا مادة لها و لا لواحق مادة، و إنما هي معقولة بذاتها لأنها لا تحتاج إلى عمل يعمل بها حتى تصير معقولة، ولا يمكن أن تكون محسوسة أبدا، وتسمى بالموجودات المعقولة في الوجود.
وأما المحسوسة الذوات في الوجود فإن ذواتها في الوجود غير معقولة، بل محسوسة، لكن العقل يجعلها بحيث تصير معقولة؛ لأنه يجرد حقيقتها عن لواحق المادة، وذلك بجملة من العمليات يقوم بها، هي: التجريد، التحليل، التمييز، التصنيف والتركيب(14).
وأما الوظيفة التصديقية فهي الحكم في مختلف القضايا، وقد تقدم أن العقل العام هو الحاكم المطلق بثبوت شيء لشيء أو نفيه عنه في القضايا الحملية، أو بثبوت الاتصال أو الانفصال أو نفيهما في القضايا الشرطية، بتركيبه للمركبات الأولى (القضايا) والثانية (القياسات) واستحصال نتيجة منها، تارة بنفسه وبدون استعانة ببقية أدوات المعرفة وتارة بالاستعانة بها.
وأحكامه تارة تكون قطعية بترجيح أحد طرفي النقيض في القضية مع عدم احتمال الطرف الآخر، وتارة تكون ظنية بترجيحه مع احتمال الطرف الآخر، وذلك بحسب طبيعة الاعتقاد المتعلق بمواد القياسات التي يكونها.
حجية العقل البرهاني وحدوده
المهم هنا هو معرفة حجية وحدود العقل المحض وهو العقل البرهاني؛ لأن العقل لو اعتمد في قياساته واستدلالاته على بقية أدوات المعرفة، فان حجيته وحدوده ستكون محكومة بحجيتها وحدودها، وهذا يختلف بحسب طبيعة تلك الأدوات.
فأما حجية العقل البرهاني فهي ثابتة ولا تحتاج الى دليل يدل عليها، بعد التوجه أن العقل المحض يعتمد في استدلالته الأولية على القضايا البدهية التي يكون التصديق بها بنحو ذاتي من الناحية المادية، وعلى صور القياس التي يكون الإنتاج فيها بدهيا كالضروب المنتجة من الشكل الأول، وهكذا تتركب البراهين وتتصاعد في موادها وصورها، ولكن لا بد في كلّ تلك الاستدلالات البرهانية من مراعات شرائط البرهان وضوابطه من حيث الصورة، باستعمال ضرب منتج لا عقيم من أشكال القياس بمراعاة شرائط الإنتاج فيه، ومن حيث المادة بأن تكون القضايا التي يستعملها في البرهان مستجمعة لشرائط مقدمات البرهان، وإلا لم يكن ذلك القياس برهان كاشفا عن الواقع على ما هو عليه، بل قد يأخذ صورة إحدى المغالطات.
کما أن البرهان العقلي هو الطريق الوحيد لما يسمى باليقين بالمعنى الأخص، وهو اليقين المستحصل عن الأسباب الذاتية للشيء، فيكون جازما مطابقا للواقع وثابت لا يتغير، حيث إن البرهان الحقيقي وهو البرهان اللمي وشبيه اللم (الملازمات)، يثبت الشيء عن طريق علله الذاتية الخارجية أو التحليلية نفس الأمري؛ ولهذا اشترط في هذا النوع من البرهان أن يكون الحد الأوسط علة ثبوتية واقعية بالإضافة إلى كونه علة إثباتية.
حدود حجية البرهان العقلي
ولكن لا بد من الالتفات إلى أن موضوعات الأحكام البرهانية هي الطبائع الحقيقية الكلية، سواء كانت مادية كالشجر والحجر والإنسان أو مجردة كالنفوس والعقول، أو ما يمكن أن يقوم مقامها من المفاهيم الثانوية الانتزاعية كالمفاهيم الفلسفية والمنطقية التي تحكي طبيعة الوجود الخارجي و الذهني للأشياء، كمفهوم واجب الوجود أو مفهوم الكلي أو الجنس وهكذا.
فيخرج عن حدود البرهان العقلي نوعين من الموضوعات: الأول هو الموضوعات الجزئية، أي: الشخصية المتغيرة، كزيد وبكر؛ وذلك لأن من شرائط مقدمات البرهان هو كونها كلية حتى تكون يقينية لا تتغير تغير الأمور الشخصية، وجب أن تكون نتائجها كذلك كلية ودائمة، نعم يمكن أن يحصل على العلم البرهاني في الجزئيات بالعرض، وذلك بتبع البرهان على طبائعها الكلية، فلو ثبت بالبرهان مثلا كون الإنسان ضاحكًا بالضرورة، أو متعلمًا بالإمكان(15)، كان زيد في وقت صدق الإنسان عليه ضاحكًا بالضروة ومتعلمًا بالإمكان، أما الموضوعات الشخصية الثابتة، فصحيح أن البرهان يجري على طبائعها الكلية، ولكن قد ثبت في محله انحصار طبائعها في شخصها، إذ إن تشخصها من لوازم ذاتها، فإذا قام البرهان فيها على طبيعتها الكلية كان ما ينتج عنه لا ينطبق إلا عليها.
والثاني هو الموضوعات الاعتبارية كأغلب موضوعات الأحكام الشرعية، فإن ملاكات ثبوت تلك الأحكام لها لا يمكن أن يعلمها العقل، بل هي في علم مشرعها لا يمكن معرفتها إلا من خلال بيانه هو، ولهذا لم يكن هناك دور للعقل في استنباط تلك الأحكام إلا بمقدار كشفه عن الملازمات العقلية بين تلك الأحكام؛ باعتبار اكتسابها نوعا من الواقعية بعد جعلها، فتترتب عليها أحكام الواقع العقلية، وكشفه عن حسن الأفعال وقبحها بناء على التسليم بكبرى الملازمة بين حكم الشارع وحكم العقل بالحسن والقبح.
المنهح العقلي
هو المنهج الذي يعتمد على أداة العقل كمصدر أساسي للمعرفة وكشف الواقع، تصورا وتصديقا، وله ضوابط محكمة نقحت منذ زمن بعيد، وهي قواعد المنطق وخصوصا البرهان وشرائطه، ولعل أول من دونها هو المعلم الأول أرسطو طاليس في كتاب (التعليم الأول)، وذلك في القرن الرابع قبل الميلاد، وقد ترجم من اليونانية إلى اللغة العربية بعد الإسلام والانفتاح على الدول الأخرى، وقد طور فيه علماء المسلمين ونقحوا مسائله، كالمعلم الثاني أبي نصر الفارابي والشيخ الرئيس ابن سينا وغيرهم.
وأما موضوعه وحدوده فقد تقدمت الإشارة إليها، وهو المنهج المستعل في العلوم الحقيقية، وخاصة تلك التي تبحث عن بناء الرؤية الكونية للإنسان كالحكمة الإلهية، وكذلك تستعمل قواعده في كثير من العلوم الإسلامية كعلم الكلام، و علم أصول الفقه.
الهوامش:
1- سورة البقرة، الآية 197.
2- الكافي، الشيخ محمد بن يعقوب الكليني، ج1، ص16.
3- انظر: شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد المعتزلي، ج6، ص431؛ شرح المقاصد في الكلام، التفتازاني، ج2، ص54؛ المبدأ والمعاد، صدر الدين الشيرازي (الملا صدرا)، ص282.
4- انظر: وسيلة الوصول الى حقائق الأصول، ميرزا حسن السبزواري، تقريرا لأبحاث السيد أبي الحسن الأصفهاني، ص292.
5- انظر، النفس من كتاب الشفاء، ابن سينا، ص64 وما بعدها؛ الأسفار، صدر الدين الشيرازي، ج4، ص 418 وما بعدها.
6- سورة الإسراء: الآية 78.
7- كما هو عند مشهور الحكماء وسيأتي بيانه.
8- كماهو عند بعض الأصوليين، انظر: نهاية الدراية في شرح الكفاية، محمد حسين الأصفهاني، ج2، ص271، اصول الفقه، محمد رضا المظفر، ج2، ص277.
9- قال بهمنيار تلميذ ابن سينا في التحصيل، ص789: (و يسمّى عقلا عمليّا، لأنّ بها تعمل النّفس. و إنما يسمّى عقلا لأنّها هيئة فى ذات النّفس لا فى مادّة، و هى العلاقة بين النّفس. و البدن، و ليس من شأنها أن تدرك شيئا، بل هى عمّالة فقط).
10- كماهو مبنى الأصوليين المتقدم.
11- كما عليه الكثير من الحكماء، انظر: عيون الحكمة، ابن سينا، ص42.
12- انظر: شرح الإشارات والتنبيها، المحقق الطوسي، ج2، ص351 وما بعدها.
13- علل الشرائع ، الشيخ الصدوق، ج1، ص5.
14- انظر تفصيل هذه العمليات وكيفيتها في مثل كتاب برهان الشفاء، ابن سينا، ص220.
15- انظر: برهان الشفاء، ابن سينا، ص70-71.
شاهد الخبر في رابط التالي:
https://aldaleel-inst.com/70