حوارٌ مع العلّامة الشيخ صادق أخوان

2020 April 27

أجرت مجلّة الدليل حوارًا مع العلّامة الشيخ صادق أخوان، أحد الأساتذة المعروفين في الحوزة العلميّة، ومتخصّصٌ في البحوث الكلاميّة والعقديّة، وكان محور الحوار يرتكز حول موضوع (الإنسان والعقيدة) الّذي يحظى بأهمّيّةٍ كبيرةٍ في عالمنا المعاصر، وله صلةٌ وثيقةٌ بمسائل الرؤية الكونيّة، فكانت الثمرة هذا الحوار الفكريّ الشيّق.

في البدء نتقدّم لكم سماحة العلاّمة الشيخ صادق أخوان بوافر الشكر والامتنان والتقدير لقبولكم إجراء هذا الحوار مع مجلّة (الدليل).

1- ما هي مكانة البحث العقديّ بين البحوث والدروس الحوزويّة؟

ابتداءً أنا بدوري أشكر كلّ الساعين والمهتمّين بالقضايا الفكريّة وبالأخصّ العقديّة منها، سائلًا المولى العزيز أن يزيد في توفيقاتهم ويرفع من درجاتهم.
عندما نتحدّث عن مكانة الدروس العقديّة في الحوزة الدينيّة أحيانًا نقصد المكانة الحقيقيّة والذاتيّة، أي ما يعبّر عنها بالمكانة "نفس الأمريّة أو الحقيقيّة"، وأخرى بالمكانة الواقعيّة الفعليّة، أي ما يعبّر عنها بالمكانة "الخارجيّة".

أمّا المكانة الحقيقيّة فلا شكّ في أنّ العلوم العقديّة والكلاميّة - بما هي - تكوّن المصداقيّة البارزة لفقه الله الأكبر الّذي به كمال النعمة وتمام الدين، وهي الدليل والفرقان والمائز بين الحقيقة والخرافة، والحقّ والباطل، وهي الّتي تتحمّل مهامّ رسم الخطط وتعيين الهدف ومنح الرتب لسائر العلوم، فهي تحتلّ أعظم المراتب وأشرف المواقع والدرجات بين العلوم الحوزويّة من حيث الأهمّيّة والحسّاسيّة بصورةٍ خاصّةٍ، وبين جميع العلوم الإنسانيّة والتجريبيّةٍ بصورةٍ عامّةٍ، حيث إنّه قد اتّفق العلماء على أنّ شرف كلّ علمٍ بشرف المعلوم، وكلّ علمٍ‌ يكون معلومه أشرف المعلومات يكون ذلك العلم أشرف العلوم؛ فأشرف العلوم العلم الإلٰهيّ؛ لأنّ معلومه الله تبارك وتعالى، وهو أشرف المعلومات بلا خلافٍ، فهو أعلى العلوم شموخًا وأكثرها تأكيدًا وأهمّيّةً، واحتلّ أعظم مساحةٍ من القرآن الكريم والنشاطات الجهاديّة العمليّة الرساليّة والتبليغيّة للأنبياء، خصوصًا سيّد المرسلين (ص)، والأئمّة الطاهرين (ع) من بعده.

فمن الطبيعيّ أن يفسّر عظماء العلم والمعرفة "الآية المحكمة" الواردة في الحديث النبويّ المشهور: «إنَّمَا العِلْمُ ثَلَاثَةٌ: آيَةٌ مُحْكَمَةٌ، أوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ، أوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ؛ وَمَا خَلَاهُنَّ فَهُوَ فَضْلٌ» [الكليني، أصول الكافي: ج 1، ص 32، حديث 1، كتاب فضل العلم ] بالعلوم العقديّة  والمعرفيّة.

يقول الميرداماد: «العلم بالآية المحكمة علمٌ نظريٌّ، وهي معرفة الله والأنبياء وحقيقة الأمر في البدء والعود، وهٰذا هو الفقه الأكبر» [الفيض الكاشاني، الوافي: ج 1، باب صفة العلم، تعليقة ص 37]. ويقول العلاّمة المجلسيّ: «المراد بالآية المحكمة البراهين العقليّة علی أصول الدين الّتي قد استنبطت من القرآن؛ لأنّها محكمةٌ ولا تزول مع الشكوك والشبهات» [الصدوق، مرآة العقول: ج 1، ص 102 و103]. ويقول الفيض القاسانيّ: «آيةٌ محكمةٌ، إشارةٌ إلى أصول العقائد؛ لأنّ براهينها آياتٌ محكماتٌ مأخوذةٌ من العالِم أو القرآن؛ ويقول - تعالى - في القرآن الكريم في كثيرٍ من الموارد الّتي يورد فيها ذكرًا عن المبدإ والمعاد: ﴿إنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَاتٍ﴾ أَو ﴿لَآيَةً﴾» [الفيض الكاشاني، الوافي: ج 1، ص 37، باب صفة العلم].

وحاصل تفاسير جميع العلماء هو أنّ العلم الحقيقيّ المتقدّم والمتألّق بين جميع العلوم إنّما هو علم معرفة الله وتوحيد ذات الله والمعارف الّتي يتضمّنها علم الحكمة العالية والدروس العقليّة، وهٰذه هي الدرجة الأولى من العلم؛ ويأتي بعدها سائر العلوم.

وممّا يؤيّد هٰذا المعنى صحيحة زرارة عن الإمام الباقر (ع): «قَالَ: بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: عَلَى الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَالصَّوْمِ وَالْوَلايَةِ - قَالَ زُرَارَةُ فَقُلْتُ وَأَيُّ شَيْ‌ءٍ مِنْ ذٰلك أَفْضَلُ- فَقَالَ الْوَلايَةُ أَفْضَلُ لِأَنَّهَا مِفْتَاحُهُنَّ وَالْوَالِي هُوَ الدَّلِيلُ عَلَيْهِنَّ» [العامليّ، وسائل الشيعة، ج2، ص18]. ومن الواضح انّ الولاية تتميّز عن الصلوة والزكاة والحج والصيام بأنّها من العناصر المُكوِّنة للعلوم العقديّة.

والعلم الحاصل بالبحث العقديّ ربّما بلغ من الأهمّيّة حتّى أصبح في بعض الآيات القرآنيّة هو بالذات الغاية من نشأة نظام التكوين بما فيه من العجائب والعظائم، ففي سورة الطلاق قال الله تعالى: ﴿اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ‌ءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْ‌ءٍ عِلْمًا﴾ [سورة الطلاق: 12]، فجعل الغاية لهٰذا الإبداع العظيم والهدف من إنشاء هٰذه الكائنات العلم المعرفيّ والعقديّ، أي أنّ جميع السماوات السبع والأرضين السبع ونزول الأمر بينهنّ مقدّمةٌ لعلم البشر، ولكي يعلموا أنّ الله قادرٌ على كلّ شي‌ءٍ وأنّ علمه محيطٌ بكلّ شي‌ءٍ. فأصبح جميع نظام الخلقة مقدّمةً للعلم المعرفيّ والعقديّ.

فمن الناحية التاريخيّة، فمنذ بداية تأسيس الحوزات العلميّة بعد الغيبة الصغرى كان الطابع المتغلّب عليها البحوث العقديّة، حتّى أنّنا نشاهد أنّ المصنّفات والمؤلّفات الاعتقاديّة والكلاميّة كانت أضعاف سائر المؤلّفات، سواءً من الفقه أو غيرها من العلوم، وتصانيف الأعلام في تلك الدورة خير شاهدٍ على هٰذا المدّعي كتصانيف الشيخين الجليلين محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه الشهير بالصدوق، والشيخ محمّد بن محمّد بن النعمان العُكبريّ البغداديّ الشهير بالمفيد ، وهما من أعلام القرن الرابع الهجريّ، وهٰكذا كان الأمر في الدورات التاريخيّة للحوزات والمدارس العلميّة لمدرسة أتباع أهل البيت (ع)، بل في بعض العصور كانت المباحث الفلسفيّة والكلاميّة، تشكّل الصورة المعروفة عن بعض الحوزات العلميّة، كحوزة أصبهان وسبزوار في بعض العصور.

وأمّا اليوم فبحمد الله نرى جميع مراجعنا وزعماء الحوزات العلميّة مهتمّين بهذا الجانب في شتّى المجالات، من تصنيف الكتب والإجابة عن الأسئلة والردّ على الشبهات، وتأسيس المراكز والمعاهد المختصّة بالبحوث الاعتقاديّة، بل وتعدّى الأمر إلى دعم بعض الوسائل الإعلاميّة المهتمّة بهذا الجانب، كبعض المجلّات والصحف والإذاعات والقنوات الفضائيّة، ومجلتكم الدليل هذه لخير دليلٍ على هذا المدّعى.

ونحن اليوم نشاهد في الحوزات العلميّة المباركة في النجف الأشرف وكربلاء المقدّسة والمشهد الرضويّ وقمٍّ المقدّسة وغيرها مئات الحلقات من الدروس العقديّة الّتي تعقد يوميًّا في شتّى المستويات، سواءٌ ‌في إطار الدروس الكلاميّة أو الفلسفيّة أو التفسيريّة.

وفي نطاقٍ أوسع وبصورةٍ محترفةٍ واختصاصاتٍ معمّقةٍ وفي مستوياتٍ اجتهاديّةٍ عليا نشاهد تأسيس معاهد وجامعات حوزويّةٍ قد اختصّت في التعمّق في الدراسات العقديّة، وإعادة النظر في الأساليب التقليديّة للعرض العقديّ ومواجهة ومقابلة الغزو الثقافيّ الناعم؛ لدرء الشبهات وإزالة الغموضات عن كثيرٍ من المفردات العقديّة الّتي ربّما كادت أن تبقى في مستوى الألغاز والطلّسمات.

ولكن مع كلّ هذه الجهود الجبّارة المشكورة والمساعي الإلهيّة الخالصة، لا يخفى على أيّ مراقبٍ وباحثٍ في المجالات العقديّة مع شدّة الهجمات الشرسة المعادية للحقّ والحقيقة واستهداف التوحيد والولاية والمدّ الواسع للمدرسة الماترياليّة المادّيّة التجريبيّة، واستخدام الآليّات والوسائل المتعدّدة والخلّابة لنشر الإلحاد وإبعاد الناس عن الصراط المستقيم، فالحاجة بمراتب تكون أكثر وأكبر ممّا نقدّمه اليوم، وتقوم بها الحوزات العلميّة، سواءٌ من حيث المحتوى أم من حيث الأساليب والصورة، أم من حيث الأدوات والآليّات.

2- لمّا كانت طبيعة الحوزات العلميّة عرض الوظائف والتكاليف العمليّة الفقهيّة لعامّة الناس، فكيف تنسجم هذه المهمّة مع البحوث والدروس العقديّة في الحوزات العلميّة؟

من السذاجة التسرّع في الحكم وعدم ملاحظة الالتحام والانسجام بين الفقهين الأكبر (العقيدة) والأصغر (التكاليف والوظائف العمليّة والسنن)، بل الأمر على العكس من هذا الظنّ، إذ نشاهد أنّ الديانة التوحيديّة تعتمد في دعوتها العالميّة على العقيدة والشريعة من دون تفريقٍ ولا فصلٍ بينهما.

ولا يكون واجب الحوزات العلميّة إلّا تهيئة الآليّات والأدوات والموادّ لنجاح هذه الدعوة القيميّة، فبالدعوة إلى العقيدة والمعرفة يعدّ للعقل والفكر غذاءه الروحيّ، ويساعد الإنسان للاقتراب من هدفه السامي للوصول إلى الكمال المطلوب: ﴿يَا أَيُّهَا الإنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾ [سورة الانشقاق: 6] ، ويصونه عن السقوط في مهاوي الشرك والوثنيّة وعبادة غير الله سبحانه، ويلفت نظره إلى مبدئه ومصيره، ويعلّمه من أين جاء؟ ولماذا جاء؟ وإلى أين يذهب؟

وبالدعوة إلى الثانية يمهّد طريق الحياة له، ويضيء دروبها الموصلة إلى سعادته الفرديّة والاجتماعيّة الدنيويّة والأخرويّة.

والجدير بالذكر هو أنّ الإسلام لا يفرّق بين العقيدة والشريعة (الفقه والالتزامات العمليّة بالأحكام الشرعيّة)، ويندّد بالّذين يكرّسون اهتمامهم في العقيدة دون الشريعة، ويختصرون الدين في الايمان المجرّد عن العمل والالتزام، بل إنّ اقتران هذين العنصرين يؤدّي إلى النجاة والرقيّ إلى الكمال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [سورة البقرة: 62]، بل يشير إلى أنّ ترك الالتزام العمليّ بالشريعة قد يؤدّي إلى زوال العقيدة، قال تعالى: ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ﴾ [سورة الروم: 10]، وفي الوقت نفسه يندّد بالّذين يحطّون من شأن العقيدة، ويعكفون على العمل والعبادة من دون تدبّرٍ في غاياتها ومقاصدها، ودون التفكير في الآمر بها، وتتلخص العبادة عندهم في السجود والركوع فقط، فذمّهم الله - تعالى - ورسم لهم الدين بأنّه مجموعةٌ ومنظومةٌ متكاملةٌ من العقيدة والعمل الصالح الأخلاقيّ والعباديّ والجهاديّ، وبنقصان أحد هذه العناصر يعطب الدين ويصبح ناقصًا: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلٰئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ﴾ [سورة البقرة: 177]. وعدّ العمل الصالح المجرّد عن الإيمان غير مؤدٍّ إلى النجاة: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [سورة النحل: 97]. ومدح وبجّل الّذين يجمعون بين عنصري العمل والعقيدة في زمنٍ واحدٍ، فقال عزّ من قائلٍ: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [سورة آل عمران: 191]. وتأكيدًا لهذه الصلة بين علمي العقيدة والشريعة، قام لفيفٌ من علمائنا القدامى والمتأخّرين بالجمع بينهما حتّى في التصنيف، فضمّوا الفقه الأكبر (العقائد) إلى جانب الفقه الأصغر (الأحكام).

ولعلّي أستغلّ الفرصة لأذكر ثلّةً من هؤلاء الأعلام:

1- السيّد الشريف المرتضى: من أعلام الشيعة وزعيمهم في القرن الرابع الهجريّ، فقد جمع بين العلمين في كتابه المسمّى (جمل العلم والعمل)، وقد تولّى تلميذه شيخ الطائفة محمّد بن الحسن الطوسيّ  شرح القسم الكلاميّ منه، وأسماه: (تمهيد الأصول)، كما تولّى تلميذه الآخر القاضي عبد العزيز بن النحرير بن البرّاج شرح القسم الفقهيّ منه وأسماه: (شرح جمل العلم والعمل)، والكتابان متوفّران في المكتبات والأسواق.

2- الشيخ أبو الصلاح تقيّ الدين الحلبيّ: من أعلام القرن الخامس الهجريّ فقد ألّف كتابًا باسم: (تقريب المعارف في العقائد والأحكام).

3- أبو المكارم عزّ الدين حمزة بن عليّ بن زهرة الحلبيّ: من أعلام الطائفة في القرن السادس الهجريّ، وهو مؤلّف (غنية النزوع)، وقد أدرج في كتابه (العقائد وأصول الفقه والأحكام)، فهٰذا الكتاب يشتمل على علومٍ رئيسةٍ ثلاثةٍ:

أ‌- الفقه الأكبر: وهٰذا القسم مشتملٌ على مهمّات المسائل العقديّة والكلاميّة من التوحيد إلى المعاد.

ب‌- أصول الفقه: وهو حاوٍ لبيان القواعد الأصوليّة الّتي يستنبط منها الأحكام الشرعيّة، ألّفه على غرار أصول القدماء، ومن فصوله النافعة والهامّة بحثه عن القياس وآثاره السلبيّة في الفقه.

جـ - الفروع والأحكام الشرعيّة: وهي دورةٌ فقهيّةٌ استدلاليّةٌ كاملةٌ، يستدلّ مؤلّفها بالكتاب والسنّة النبويّة وأحاديث العترة الطاهرة.

4- الشيخ الفقيه المتكلّم النبيه علاء الدين أبو الحسن عليّ ابن أبي الفضل بن الحسن بن أبي المجد الحلبيّ: من أعلام القرن السادس الهجريّ، وقد صنّف كتاب (إشارة السبق إلى معرفة الحقّ) في أصول الدين وفروعه.

5- المحقق الفقيه الشيخ جعفرٌ النجفيّ المعروف بكاشف الغطاء: وهو من أعلام القرن الثاني عشر الهجريّ، ألّف كتاب (كشف الغطاء) الّذي ضمّ إلى جانب الفقه مباحث هامّةً كلاميّةً وأصوليّةً لا يستغني عنها الباحث، وبذلك أثبت أنّ العمل ثمرة العقيدة، وقرينها تكوينًا وتشريعًا.
حتّى أنّ بعض الفقهاء والمراجع المعاصرين قد قدّم على رسالته العمليّة الجامعة لفتواه الفقهيّة المجموعة لمقلّديه من عامّة الناس بحوثًا ثمينةً وقيّمةً من المسائل العقديّة.

3- كيف تجيبون على الإشكاليّة الّتي تطرح من قبل بعض اللادينيّين والقائلة إنّ الحاجة إلى الاعتقاد بالإله ناشئةٌ من الجهل بأسباب الظواهر والحوادث الطبيعيّة، فكلّما اكتشف الإنسان سببًا لظاهرةٍ طبيعيّةٍ انتفت الحاجة إلى الإله هناك، وبتعبيرهم (إله الثغرات) الّذي لم تعد هناك حاجةٌ إليه في ضوء الاكتشافات العلميّة الضخمة والعملاقة؟

مغالطة إله الفجوات أو إله الفراغات أو إله سدّ الثغرات - على اختلاف الترجمة [God Of The Gaps] - هو المصطلح الّذي يستعمله الملحدون وبكثرةٍ في حواراتهم مع المؤمنين؛ لزعزعة الأسس الإيمانيّة والقواعد الراسخة الاعتقاديّة، وهٰذا النقاش يتمّ خلاله جعل الفراغات الناشئة من النقص في المعرفة العلميّة بالكون دليلًا على وجود الإله. وهو يلخَّص بهٰذا التعريف «جعل الفراغات أو النقص في المعرفة العلميّة دليلًا على وجود الإله». وبمقتضى هذا التعريف يكون كلّ ما يمكن تفسيره بعلم الإنسان ليس من اختصاص الإلٰه، وهٰذا يعني أنّ دور الإلٰه يتحدّد في ”الفجوات“ الّتي لم يتمّ تفسيرها علميًّا. وهٰذه الفكرة تتضمّن الدمج بين التفسيرات الدينيّة والتفسيرات العلميّة، بحيث يمكن القول إنّه “كلّما تمكّن العلم من إعطاء شرحٍ أدقّ للعالم قلّ دور الإلٰه في هٰذا العالم”.

فعلى ضوء ما قدّمناه اتّضح أنّ هٰذا المصطلح يستخدم عند الملحدين للإشارة إلى كون المؤمنين ينسبون ما يجهلون سببه أو يعجزون عن تقديم تفسيرٍ علميٍّ له للإلٰه، فهٰذه المغالطة يركّز عليها الملحدون بكثرةٍ وبشكلٍ ملحوظٍ جدًّا في حواراتهم ومناظراتهم، حتّى أنّه لا تخلو مناظرةٌ بين المؤمنين والملاحدة من الحديث عن مفهوم ”إلٰه سدّ الثغرات“، فيتّهم الملحدون المؤمنين بأنّهم عندما يعجزون عن تفسير شيءٍ بأسلوبٍ علميٍّ فإنّهم ينسبون فعله إلى الإلٰه لتغطية جهلهم، وفي الوقت نفسه ينطلقون من هٰذا الجهل للاستدلال على وجود الإلٰه.

يعود هٰذا المصطلح إلى هنري دروموند (Henry Drummond) الّذي كان محاضرًا مسيحيًّا في القرن التاسع عشر. ينتقد دروموند المسيحيّين الّذين يركّزون على الأشياء الّتي لا يستطيع العلم تفسيرها ”الفراغات الّتي يملؤونها عن طريق الإلٰه“ ويحفّزهم لاعتناق الطبيعة بكاملها كخلقٍ مخلوقٍ للإلٰه.

تمّ استعمال المصطلح لاحقًا في عام 1955 من قبل تشارلز ألفريد كولسون (Charles Coulson) في كتابه (العلوم والإلٰه) كما تمّ استعماله في عام 1971 في كتاب ريتشارد بيوب الّذي فصّل الحديث عن المصطلح في كتاب آخر عام 1978. إذ رأى فيه أنّ جزءًا من سبب الأزمة المعاصرة في الإيمان بالأديان يعود إلى تقلّص إلٰه الفراغات بتطوّر المعرفة العلميّة. فبينما تقدّم فهم الإنسان للطبيعة، صغر بالمقارنة مجال الإلٰه أكثر فأكثر. ويرى بيوب أنّ أصل الأنواع لتشارلز داروين كان إيذانًا حاسمًا بنهاية إلٰه الفراغات!

في الواقع هنالك ثلاثة تفسيراتٍ لهٰذا المصطلح: الأوّل ما أشار إليه إسحق نيوتن من أنّ الله قد خلق الكون ووضع فيه من القوانين ما يسيّره وينظّمه ويتركه ليدير نفسه بنفسه، بيد أنّه أحيانًا يتدخّل مباشرةً بشكلٍ أو بآخر إن أظهرت هٰذه القوانين عجزًا في ذٰلك، فيعيد الأمور إلى نصابها ثمّ تعود هٰذه القوانين لتسيّره مرّةً أخرى، أي أنّ الإلٰه يتدخّل فقط في الحالات الطارئة عندما لا تستطيع قوانين العلم أن تسيّر الكون.

وهٰذا التفسير - وإن كان في نفسه خاطئًا وغير منسجمٍ مع البراهين العقليّة – لا ينفي وجود الإلٰه أو الحاجة إلى الإلٰه، بل في الجملة يُثبت الحاجة إلى الإلٰه.

التفسير الثاني: أنّ نظرية إلٰه الفجوات والفراغات لاتعارض فكرة وجود الإلٰه بحدّ ذاتها، وإنّما تؤكّد أنّ هناك مشكلةً أساسيّةً في فهم وجود الإلٰه في فراغات معرفتنا في اليوم الحاضر.
وقد صرّح بهٰذه الحقيقة بيوب قائلًا: إنّ إلٰه الثغرات والفجوات  ليس مقصودًا به إلٰه الإنجيل أو ما يعبّر عنه في علم اللاهوت بالله.
وأمّا التفسير الثالث والأخير والأكثر انتشارًا فهو الّذي يستعمل علةً لتفسير ما لم يستطع العلم أن يفسّره، أي أنّ العلم تتكشّف أمامه يومًا بعد يومٍ تفسيراتٌ لأمورٍ كانت تعدّ من المهام الإلٰهيّة. فعلى سبيل المثال كانت الأمراض قديمًا وقبل اكتشاف الجراثيم المسبّبة لها تفسَّر بأنّها مسبَّبةٌ بصورةٍ مباشرةٍ من قوّةٍ غيبيّةٍ خارج النطاق البشريّ (ما يُعبّر عنه بـ الآلهة أو الإلٰه على اختلافه بين الثقافات والشعوب). فكلّ ما يفشل العلم في تفسيره ينسب إلى الإلٰه. ولعلّ هٰذه هي المصيدة الّتي يقع فيها بعض المؤمنين السذّج عندما يُسألون عن تفسيرٍ علميٍّ لظاهرةٍ معيّنةٍ، فيسارعون بالجواب بأنّ الله هو الّذي فعل ذٰلك. نعم، لا ننكر نحن المؤمنين أنّ الله قد فعل ذٰلك، ولٰكنّنا نؤمن بأنّ الله سخّر قوانين العلم لنا كي نفهم آليّة الكون الّذي نعيش فيه وسننه.
ونشاهد نماذج كثيرةً من النصوص الدینیّة وسیرة عظماء الدين ما يؤكّد هٰذه الحقيقة، فقد روي في الأثر الحديث: «أبی الله أن يجري الأمور إلّا بأسبابها» [المجلسي، بحار الأنوار: 2/ 90 و168] ، وروی البرقيّ في (المحاسن) بسنده عن الكاظم (ع) قال: «لمّا قبض إبراهيم ابن رسول الله (ص) أنّ الشمس انكسفت فقال الناس: إنّما انكسفت الشمس لموت ابن رسول الله! فصعد رسول الله المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: أيّها الناس إنّ الشمس والقمر آيتان من آيات الله يجريان بأمره مطيعان له، لا ينكسفان لموت أحدٍ ولا لحياته» [البرقي، المحاسن 2: 29 – 31؛ الكليني، فروع الكافي 3: 208].
ولعلّ منشأ مصطلح إلٰه الثغرات هو الافتراض بوجود صراعٍ ضمنيٍّ بين الله والعلم، وكأنّ تدخل الله في الكون يكون فقط لتفسير ما يجهله الإنسان، وهٰذا يؤدّي إلى مفارقةٍ عجيبةٍ تشير إلى أنّه كلّما ازداد جهل الإنسان زادت معرفته بالله! فكلّ ما يعجز هٰذا الإنسان عن فهمه فإنّه ينسبه لله، وبالتالي كّلما جهل أمورًا أكثر ازداد قربًا ومعرفة بالله!
فالفكر الغربيّ الملحد حاليًّا يفترض قطعًا بأنّ هناك تعارضًا بين الله والقوانين العلميّة، وبأنّ الله - سبحانه - يعمل في مستوًى واحدٍ مع القوانين العلميّة، فهما يتعارضان باستمرارٍ. وكلّما اكتشف العلم شيئًا جديدًا فإنّ نفوذ الله يتقلّص تدريجيًّا حتّى يصل إلى المرحلة الّتي تمحى فيها الحاجة لوجود الإلٰه بعد أن يكتشف العلم كلّ ما يسعى إليه ويفسّر كيف نشأ الكون، وكيف نشأت الحياة، وماذا سيكون مصير الكون وغیرها من الاستفهامات والاستفسارات.
غير أنّنا باعتبارنا مؤمنين، نعتقد يقينًا بأنّ القوانين العلميّة وطريقة عمل الكون ونظمه هي سنّة الله في الكون، وطريقة الله ليبيّن لخلقه كيف يعمل هٰذا الكون، وإعانةٌ من الله لنا؛ كي نفهم هٰذا الكون ونرتقي بحياتنا ونصل إلى معرفةٍ يقينيّةٍ بالله، ولا تعارض بين الله والعلم مطلقًا. قال - سبحانه - في القرآن الكريم: ﴿قُلْ سِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [سورة العنكبوت: 20]، و﴿أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا﴾ [سورة الحجّ: 46]. إذ إنّ فهم الآليّة الّتي يسير بها الكون لا تغني عن السبب الأوّل الموجد له. ويبقى السؤال المطروح: إلى أيّ حدٍّ يستطيع العلم أن يأخذنا في فهم هٰذا الكون؟ وهل نستطيع بالعلم وحده دون الله تفسير كلّ أسراره وظواهره؟!
هٰذا القرآن الكریم جعل آدم متمیّزًا عن كلّ خلقه بإحاطته العلمیّة بكلّ شيءٍ حتّی أصبح معلّمًا للملائكة: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هٰؤُلَاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ [سورة البقرة: 31-33].
فقول الملحدين «إنّ وجود الإلٰه الخالق للكون هو استغلالٌ خاطئٌ لعدم استطاعة العلم حتّى الآن الإجابة عن تساؤلاتٍ معيّنةٍ» قولٌ خاطئٌ مع كون العلم يعجز عن تفسير كثيرٍ من التساؤلات، لعلّ أبرزها عن كيفيّة خلق الكون أو بدء الحياة. فالعلم يقف عاجزًا عن التوصّل إلى كيفيّة بداية الكون. فإنّ اللحظة من الناحیة التجریبیّة علمیًّا صفرٌ في عمر الكون (بداية خلقه) لا يمكن أن تفسّر علميًّا. وما يتمّ طرحه لا تعدو كونها نظريّاتٍ وليست حقائق. والعلم عاجزٌ كذٰلك عن تفسير السبب الأوّل وكيفيّة نشوء أوّل خليّةٍ حيّةٍ، وما زال يفترض العديد من الفرضيّات حول ذٰلك غير أنّ أيًّا منها لا يرقى لمستوى الحقيقة العلميّة.
ومن ناحیةٍ أخری يدلّ مصطلح مغالطة إلٰه الفراغات على الموقف الّذي يفترض أنّ فكرة الإلٰه تفسّر أيّ ظاهرةٍ غير مفهومةٍ، وهٰذه المغالطة هي نوعٌ من مغالطات التوسّل بالمجهول، ويمكن تلخيص هٰذا النوع من النقاش بالشكل التالي:
• هناك فراغٌ في فهم بعض جوانب العالم الطبيعيّ.
• لذا يجب أن يكون السبب والتفسير اعتمادًا على ما وراء الطبيعة.
مثالٌ لهٰذا النقاش: بما أنّ العلم الحالي لا يستطيع حتّى الآن تحديد كيفيّة بدء الحياة تمامًا، فإنّ الإلٰه يجب أن يكون قد سبب بدء الحياة.
ومغالطة التوسّل بالمجهول (مغالطة عبء الإثبات)، وهٰذه المغالطة تحصل حينما يُنقل عبء إثبات الدعوى إلى جهةٍ خاطئةٍ. وتحصل أحيانًا أخرى حينما يكون ضعف الإثبات في جهةٍ معيّنةٍ من الدعوى دليلًا على صحّة الجهة الأخرى بدون وجود إثباتٍ لصحّتها. وتسير المغالطة على الشكل التالي:
1. يتم طرح دعوى (س) من جهة (أ)، وعبء الإثبات يقع في جهة (ب).
2. جهة (ب) تفرض أنّ دعوى (س) خاطئةٌ؛ لأنّه لا يوجد دليلٌ عليها.
تفرض هٰذه المغالطة بأنّ الدعوى صحيحةٌ ما دام أنّه لم يثبت بالدليل أنّها خاطئةٌ، والعكس صحيحٌ أيضًا، أي أنّ الدعوى خاطئةٌ ما دام أنّه لم يثبت بالدليل أنّها صحيحةٌ. وفي كلا الحالتين فإنّ "عدم وجود الدليل" بحدّ ذاته قام مقام "الدليل"، فيكون "عدم وجود الدليل" دليلًا على بطلان تلك الدعوى أو صحّتها، وأحيانًا تأخذ شكلًا آخر بأن يقال إنّ الخصم لا يستطيع أن يدحض تلك الدعوى، إذن الدعوى صحيحةٌ بالضرورة.
وفي الواقع لم يوجَد ولم يقدّم مدّعو هٰذه النظريّة أيّ دليلٍ على إثبات نظريّتهم، وإنّما هي مجرّد ادّعاءٍ فارغٍ مع ما يمتلكه الإلٰهيّون مقابل هٰذه النظريّة - المعتمدة لدی الملاحدة، والمستندة والمغترّة بنظريّة أصل الأنواع والتطوّر الداروينيّة - من البراهین القویمة الفلسفیّة والأدّلة الدامغة في نظریّاتٍ علمیّةٍ معتمَدٍ علیها في المجتمع الغربيّ كنظريّة التصميم الذكيّ أو الرشيد (Intelligent Design) وخلاصته أنّ «بعض الميزات في الكون والكائنات الحيّة لا يمكن تفسيرها إلّا بمسبّبٍ ذكيٍّ، وليس بمسبّبٍ غير موجّهٍ كالاصطفاء الطبيعيّ»، هٰذا المفهوم عبارةٌ عن شكلٍ معاصرٍ للدليل الغائيّ لوجود الله، يقدّم على أنّه قائمٌ على أدلّةٍ علميّةٍ بدلًا من الأفكار الدينيّة. وتمّ تعديله لتجنّب الحديث حول ماهيّة المصمّم أو طبيعته، وهي نظريّةٌ علميّةٌ تقف على قدم المساواة، بل تتفوّق على النظريّات الحاليّة الّتي تتعلّق بالتطوّر وأصل الحياة.
إنّ منظّري فكرة التصميم الذكيّ المعاصرة مرتبطون بمعهد دسكفري، وهو منظّمةٌ أمريكيّةٌ غير ربحيّةٍ، وبيت خبرةٍ مقرّها سياتل في ولایة واشنطن، وترتكز فكرة التصميم الذكيّ على مفاهيم أساسيّةٍ وهي التعقيدات المتخصّصة والتعقيدات غير القابلة للاختزال الّتي تدّعي بأنّ هناك أنظمةً أحيائيّةً معقّدةً بشكلٍ معيّنٍ، بحيث لا يمكن تكوّنها عبر طرقٍ طبيعيّةٍ عشوائيّةٍ، وهناك أيضًا مفهوم التوافق الدقيق للكون الّذي يدّعي بأنّ الكون قد صُقل بعناية ليسمح بظهور الحياة على الأرض.
أثار مفهوم التصميم الذكيّ جدلًا في المجتمع العلميّ بسبب محاولة أنصاره إدخاله إلى مجال التعليم المدرسيّ، إضافةً لجذبه عددًا من العلماء والفلاسفة في المجتمع الغربيّ ومنهم الفيلسوف أنطوني فلو الّذي أعلن تأييدهُ للتصميم الذكيّ، وأنّ هناك مصمّمًا ذكيًّا يقف خلف التطوّر، فرجع عن الإلحاد.
فإذا أردنا أن نوضّح هٰذه النظریّة - وإن لم یكن فی هٰذا اللقاء مجالٌ لتفصیل ذٰلك - نقول علی سبیل الإشارة إنّه في عام 1859 للمیلاد أصدر عالم الأحياء الشهیر تشارلز داروين كتابه (أصل الأنواع) الّذي صار أشهر الكتب الّتي تحاول تفسير نشأة الكائنات الحيّة وأكثرها إثارةً للجدل، ويضع داروين في كتابهِ نظريّةً تنصّ على أنّ جميع الكائنات الحيّة قد تطوّرت من كائناتٍ حيّةٍ أخرى أقلّ تعقيدًا، إذ إنّ الطفرات الوراثيّة والانتخاب الطبيعيّ قد عملا سويًّا على إنشاء كائناتٍ أكثر تطوّرًا من أسلافها.
في ذاك الوقت لم يعرف العلماء عن الخليّة سوى أنّها بقعةٌ بسيطةٌ من الجبلّة (البروتوبلازم) تشبه الجليّ، ولم يتغيّر هٰذا المفهوم حتّى خمسينيّات القرن العشرين، وعند استكشاف (DNA) الخليّة للمرّة الأولى من خلال المجهر الإلكترونيّ، ورؤية الخليّة بشكلٍ مكبّرٍ قد أثار ثورةً في علم الأحياء، إذ اكتشف العلماء أنّ هنالك عالمًا كاملًا داخل الخلية، وأنّها أبعد ما تكون عن البساطة، فلو كان العلماء في ذٰلك الوقت يظنّون أنّ الخليّة بدرجة تعقيد سيّارةٍ مثلًا، فإن درجة التعقيد المعروفة الآن عن الخليّة هي بدرجة تعقيد المجرّة.
لذا بدأ العديد من العلماء بالتشكيك فيما كان هٰذا التعقيد الهائل قد تمّ بناؤه بمحض الصدفة فقط، بل يبدو أنّه تمّ تصميمه عن عمدٍ من قبل مصمّمٍ ذكيٍّ خارقٍ. فإذا وجد أحد علماء الآثار - على سبيل المثال - تمثالًا مصنوعًا من الحجر في حقلٍ، فسيستنتج أنّ التمثال قد صُنع؛ لأنّ الملامح الّتي يحملها التمثال تؤكّد أنّ هناك شخصًا ذكيًّا قام بإنشائه، ولا نذهب لافتراض أنّ العوامل المناخيّة (مثل الأمطار) قامت بنحته ليصبح بهٰذا الشكل، لٰكنّنا لن نبرّر بالادّعاء نفسه إذا وجدنا قطعةً صخريّةً عشوائيّة الشكل ومن الحجم نفسه.
ومن هنا نستطيع القول إنّ التمثال يحمل "علامات ذكاءٍ" على عكس قطعة الحجر عشوائيّة الشكل؛ لذا فإنّ مؤيّدي التصميم الذكيّ يعملون على البحث عن الأنظمة الأحيائيّة الّتي تحمل علامات الذكاء الدالّة على أنّها لم تنشأ عن محض الصدفة، ومثل هٰذه الأنظمة ما يسمّى "التعقيد اللا اختزالي" و"التعقيدات المتخصّصة".
وقد ناقش الفلاسفة مطوّلًا قضيّة أنّ التعقيد الموجود في الطبيعة يدلّ على وجود مصمّمٍ (خالقٍ) طبيعيٍّ أو فوق طبيعيٍّ. مثل هٰذه النقاشات نجدها في الفلسفة الإغريقيّة حول وجود خالقٍ طبيعيٍّ، ولقد برز هنا مصطلحٌ فلسفيٌّ هو اللوغوس، الّذي يشير إلى ترتيبٍ ضمنيٍّ في بنية الكون، ويعزى هٰذا المصطلح أساسًا لهيراكليتوس في القرن الخامس قبل الميلاد، إذ قام بشرحه في محاضراته في القرن الرابع قبل الميلاد، وقد وضع أفلاطون ما يدعوه "demiurge" للحكمة العليا والذكاء العلويّ كخالقٍ للكون في عمله الشهير "طيمايوس"، وتحدّث أرسطو أيضًا ومطوّلًا عن فكرة الخالق للكون، وغالبًا ما كان يشير إليه بالمحرّك البدئيّ، وذٰلك في كتابه الميتافيزيقا. أمّا شيشرون فهو يذكر في أعماله (في طبيعة الآلهة) عام 45 ق. م. أنّ «القوّة الإلٰهيّة موجودةٌ في مبدإ العقل الّذي يسيطر على كامل الطبيعة».
وهٰذا الأسلوب في الاحتجاج والاستنتاج وتطبيقه للوصول لإثبات وجود خالقٍ فوق-طبيعيٍّ عرف لاحقًا باسم الدليل الغائيّ لوجود الله. والشكل الأكثر أهمّيّةً لهٰذه الحجّة نجده في أعمال توما الأكويني، فموضوع التصميم أصبح خامس براهين الأكوينيّ الخمسة لإثبات وجود الله الخالق.
ونستطيع أن نرى هٰذه الطريقة بالاستدلال في الفلسفة الإسلاميّة، فنجد ابن سينا يشرح ما يسمّيه "العناية" في كتبه المتعدّدة، حيث يقول عن تلك العناية: «ولا سبيل لك إلى أن تنكر الآثار العجيبة في تكون العالم، وأجزاء السماويّات، وأجزاء النبات والحيوان، ممّا يصدر اتّفاقًا، بل يقتضي تدبيرًا ما».
ومع غضّ النظر عن كلّ ما ذكرناه فإنّه كما يهاجم الملاحدةُ المؤمنين بلجوئهم دومًا للقدرة الإلٰهيّة لتفسير نشوء الكون والحياة، فإنّ لهٰؤلاء الملحدين إلٰهين لسدّ الثغرات! الإلٰه الأوّل مرتبطٌ بالماضي وهو (ملايين السنين)! فلو سألت أحدًا منهم: كيف نشأت الحياة من العدم؟ لأجابك فورًا: عبر ملايين السنين! ولو سألته كيف أنتجت هٰذه الحياة الصور الأكثر تعقيدًا؟ أو كيف تنوّعت الكائنات الحيّة؟ فستكون إجابته دائمًا: «عبر ملايين السنين»!
أمّا الإلٰه الثاني فهو العلم نفسه! وهو ما يرتبط بالمستقبل. فلو سألت أحدهم: كيف بدأ الكون؟ أو فسّر لنا النقطة صفر في تاريخ الكون أو غيرها من الأمور الّتي لم تتكشف بعد لأجابك فورًا: بأنّ العلم سوف يكتشف ذٰلك مستقبلًا. أليس هٰذا (علمًا لسدّ الثغرات) ؟! إنّما الثغرات في عقول من اعتقد بأنّ الإلٰه إنّما هو إلٰه الثغرات والفجوات.

4- هل حكم الوجوب فی معرفة العقیدة عقليٌّ أو شرعيٌّ؟
هٰذه المسألة تلاحظ من زوایا عدیدةٍ:
أوّلًا: في الضروریّات من معرفة الله وتوحید ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله وعدله ولزوم إرسال الرسل وإنزال الكتب وتعیین النبيّ بالإعجاز ووجود الحجج في غیبة الرسل وحتمیّة یوم الجزاء.
فمن الناحیة الكلامیّة اختلف أئمّة المذاهب والعلماء في مسألة التقليد في العقائد، فعند أهل السنّة قد ذهب كثيرٌ من الأصوليّين والمتكلّمين إلى تحريم التقليد، وذهب كثيرٌ من الفقهاء من الحنابلة والظاهريّة إلى جواز ذٰلك، قال الزركشيّ: «والعلوم نوعان: عقليٌّ وشرعيٌّ، الأوّل: العقليّ، وهو المسائل المتعلّقة بوجود الباري وصفاته، واختلفوا فيها، والمختار أنّه لا يجوز التقليد، بل يجب تحصيلها بالنظر، وجزم به الأستاذ أبو منصورٍ والشيخ أبو حامدٍ الأسفرايينيّ في تعليقه، وحكاه الأستاذ أبو إسحاق في (شرح الترتيب) عن إجماع أهل العلم من أهل الحقّ وغيرهم من الطوائف، وقال أبو الحسين بن القطّان في كتابه: لا نعلم خلافًا في امتناع التقليد في التوحيد... وحكاه ابن السمعانيّ عن جميع المتكلّمين، وطائفةٍ من الفقهاء. وقالوا: لا يجوز للعامّيّ التقليد فيها، ولا بدّ أن يعرف ما يعرفه بالدليل». وجزم أبو منصورٍ بوجوب النظر، ثمّ قال: فلو اعتقد من غير معرفةٍ بالدليل، فاختلفوا فيه، فقال أكثر الأئمّة: إنّه مؤمنٌ من أهل الشفاعة، وإن فسق بترك الاستدلال، وبه قال أئمّة الحديث، وقال الأشعريّ وجمهور المعتزلة: «لا يكون مؤمنًا، حتّى يخرج فيها عن جملة المقلّدين». وقال الفخر الرازيّ: «لا يجوز التقليد في أصول الدين، لا للمجتهد، ولا للعوامّ، وقال كثيرٌ من الفقهاء بجوازه».
وعند أتباع مدرسة أهل البیت (ع) فقد قال المرحوم الشیخ محمدرضا المظفّر في (عقائد الإمامیّة): «عقيدتنا في النظر والمعرفة: نعتقد أنّ الله - تعالى - لمّا منحنا قوّة التفكير ووهب لنا العقل، أمرنا أن نتفكّر في خلقه وننظر بالتأمّل في آثار صنعه، ونتدبّر في حكمته وإتقان تدبيره في آياته في الآفاق وفي أنفسنا، قال تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾  [سورة فصّلت: 53]. وقد ذمّ المقلّدين لآبائهم بقوله تعالى: ﴿قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ﴾ [سورة البقرة: 170]، كما ذمّ من يتّبع ظنونه فقال: ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾ [سورة الأنعام: 116؛ سورة یونس: 66]. وفي الحقيقة فإنّ الّذي نعتقده أنّ عقولنا هي الّتي فرضت علينا النظر في الخلق ومعرفة خالق الكون، كما فرضت علينا النظر في دعوى من يدّعي النبوّة وفي معجزته، ولا يصحّ عندها تقليد الغير في ذٰلك مهما كان ذٰلك الغير منزلةً وخطرًا.
وما جاء في القرآن الكريم من الحثّ على التفكير واتّباع العلم والمعرفة فإنّما جاء مقرّرًا لهٰذه الحرّيّة الفطريّة في العقول الّتي تطابقت عليها آراء العقلاء، وجاء منبّهًا للنفوس على ما جبلت عليه من الاستعداد للمعرفة والتفكير، ومفتّحًا للأذهان وموجّهًا لها على ما تقتضيه طبيعة العقول.
فلا يصحّ - والحال هٰذه - أن يهمل الإنسان نفسه في الأمور الاعتقاديّة، ولا أن يتّكل على تقليد المربّين أو أيّ أشخاصٍ آخرين، بل يجب عليه بحسب الفطرة العقليّة المؤيّدة بالنصوص القرآنيّة أن يفحص ويتأمّل وينظر ويتدبّر في أصول اعتقاداته  المسمّاة أصول الدين، الّتي أهمّها التوحيد والنبوّة والإمامة والمعاد.
ومن قلّد آباءه أو نحوهم في اعتقاد هٰذه الأصول فقد ارتكب شططًا وزاغ عن الصراط المستقيم ولا يكون معذورًا أبدًا. وبالاختصار عندنا هنا ادّعاءان: الأوّل: وجوب النظر والمعرفة في أصول العقائد، ولا يجوز تقليد الغير فيها. الثاني: أنّ هٰذا وجوبٌ عقليٌّ قبل أن يكون وجوبًا شرعيًّا، أي لا يستقي علمه من النصوص الدينيّة وإن كان يصحّ أن يكون مؤيّدًا بها بعد دلالة العقل، وليس معنى الوجوب العقليّ إلّا إدراك العقل لضرورة المعرفة ولزوم التفكير والاجتهاد في أصول الاعتقادات» [المظفر، عقائد الإمامية: 30 و31].
والآيات القرآنیّة والروایات الصادرة من المعصومین (ع) ما یؤیّد هٰذا المطلب، فقد ورد فی القرآن العشرات من الآیات الّتي تحثّ علی النظر والتفكیر والتعقّل، مثل قوله تعالی: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [سورة آل عمران: 190 و191].
ومن السنّة أسلوب إمامنا أمیر المؤمنین عند استعراضه المطالب العقدیّة، فقد روی الشریف الرضيّ في (نهج البلاغة) عن مولانا أمیر المؤمنین (ع) أنّه قال: «أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُهُ، وَكَمَالُ مَعْرِفَتِهِ التَّصْدِيقُ بِهِ، وَكَمَالُ التَّصْدِيقِ بِهِ تَوْحِيدُهُ، وَكَمَالُ تَوْحِيدِهِ الْإِخْلَاصُ لَهُ، وَكَمَالُ الْإِخْلَاصِ لَهُ نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْهُ؛ لِشَهَادَةِ  كُلِّ صِفَةٍ أَنَّهَا غَيْرُ الْمَوْصُوفِ، وَشَهَادَةِ كُلِّ مَوْصُوفٍ أَنَّهُ غَيْرُ الصِّفَةِ. فَمَنْ وَصَفَ اللهَ - سُبْحَانَهُ - فَقَدْ قَرَنَهُ، وَمَنْ قَرَنَهُ فَقَدْ ثَنَّاهُ، وَمَنْ ثَنَّاهُ فَقَدْ جَزَّأَهُ، وَمَنْ جَزَّأَهُ فَقَدْ جَهِلَهُ، وَمَنْ أَشَارَ إِلَيْهِ فَقَدْ حَدَّهُ، وَمَنْ حَدَّهُ فَقَدْ عَدَّهُ، وَمَنْ قَالَ فِيمَ فَقَدْ ضَمَّنَهُ، وَمَنْ قَالَ عَلَامَ فَقَدْ أَخْلَى مِنْهُ. كَائِنٌ لَا عَنْ حَدَثٍ، مَوْجُودٌ لَا عَنْ عَدَمٍ، مَعَ كُلِّ شَيْ‌ءٍ لَا بِمُقَارَنَةٍ، وَغَيْرُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ لَا بِمُزَايَلَةٍ، فَاعِلٌ لَا بِمَعْنَى الْحَرَكَاتِ وَالْآلَةِ، بَصِيرٌ إِذْ لَا مَنْظُورَ إِلَيْهِ مِنْ خَلْقِهِ، مُتَوَحِّدٌ إِذْ لَا سَكَنَ يَسْتَأْنِسُ بِهِ، وَلَا يَسْتَوْحِشُ لِفَقْدِهِ» [نهج البلاغة، الخطبة 1].
ثمّ إنّ المطلوب في هٰذا الحقل من العقائد الیقین، ولا یمكن التقلید في الیقینیّات؛ إذ إنّ الأمور التقلیدیّة لا تكون إلّا ظنّیّةً، وهٰذا بخلاف الشریعة والفقه، فحیث لا یكون المطلوب فیها أكثر من الظنّ.
وثانیًا: في التفاصیل الّتي ربّما لم یكن المطلوب منها الیقین، كصفات الجنّة والنار، ومنازل الآخرة من القبض وزهوق النفس والقبر والسؤال والبرزخ والنشور وتطایر الكتب والصراط والمیزان والأعراف والحوض والشفاعة وغیرها من التفاصیل الأخری، أو في مجالٍ آخر كتفاصیل الرجعة وعلائم آخر الزمان والظهور وكیفیّة ظهور الإمام الحجّة وحكومته #.
وحیث إنّ قبول هٰذه الأمور وتلقینها، سواءٌ كان علی مستوی الظنّ أو الاطمئنان أو الیقین، لا یمسّ ساحةً من ساحات التوحید أو النبوّة أو الإمامة أو المعاد، بحیث یؤدّي إلی إخلالٍ بضروريٍّ من ضروریّات العقیدة، فالتقلید فیها غیر ضارٍّ، وفي كثیرٍ من الساحات لا بدّ منه؛ إذ لا مجال للبرهان العقليّ في عدد أبواب الجنّة والنار وغیرها من الجزئیّات والتفاصیل المذكورة قرآنیًّا وروائیًّا.

5-كما هو معلومً فإنّ الإنسان ابن بیئته وأفكاره، وعقائده تنشأ منها تقلیدًا، ولا تخضع غالبًا للمعاییر العلمیّة للتثبّت من صحّتها، كیف یمكن التنبیه علی ضرورة نبذ التقلید الأعمی واتّخاذ منهجٍ معیاريٍّ في قبول العقیدة؟
أوّلًا أنا لا أتّفق أنّ الغالب لا یعتمد فی عقائده الصحیحة علی المعاییر العلمیّة، إذا قصدتم بالمعاییر العلمیّة المعرفة التفصیلیّة المنطقیّة والبرهانیّة المدرسیّة، فضرورة كون العقیدة الصحیحة مستندةً إلی العلم بمصطلحات علمي المنطق والفلسفة أوّل الكلام، وأنّ ما یكوّنه المؤمن في نفسه من المقدّمات یكون ملتفتًا إلی أنّه من القیاسات الاقترانیة أو الاستثنائیّة أو من أيّ نوع  منها.
بل الإنسان بفطرته كالعجوز الّتي عرفت الله بدولاب مغزلها، إنّما إیقافها لذٰلك الدولاب كان تعبیرًا صامتًا لبرهان الحركة الأرسطیّة علی وجود الله سبحانه وتعالی .
وأمّا إذا قصدتم الأمور المرتبطة بتفاصیل العقیدة وعدم الاستناد إلی الأدّلة المعتبرة في أصول العقیدة، فلا بدّ من لغةٍ هادئةٍ أخلاقیّةٍ، بحیث لا یؤدّي إلی نفور العامّة من أصول الدین ولا التشكیك بالمسلّمات العقدیّة. وباستخدام حكمةٍ وسیاسةٍ وأسالیب جذّابّةٍ نوّجه العوامّ وبعض الخواصّ إلی ما هو الحقّ من أسلوب الاعتقاد وطریقة قبول المفردات العقدیّة.

6- من المعضلات الّتي تتعلّق بنشر العقیدة أنّ العقائد في كثیر من الأحیان  تعتمد علی مقدّماتٍ معقّدةٍ تصاغ بمصطلحاتٍ خاصّةٍ یصعب علی عامّة الناس إدراكها، فما هي الطریقة المناسبة لحلّ هٰذه المعضلة؟
أنا أجیب باختصارٍ إنّما هي الطریقة القرآنیّة، فالقرآن كتاب عقیدةٍ حوی أهمّ الأصول والأسس العقدیّة والمفردات المعقّدة معنویًّا من المباحث الفلسفیّة، أمّا بلغةٍ یعرفها عامّة معاصري التنزیل بلسانٍ عربيٍّ مبینٍ، بلغة الفنّ، فالقرآن إعجازه فنّيٌّ في الفصاحة والبلاغة، أي الأنماط والأسالیب الفنّیّة في روعتها وذروتها وجمالها، فاستعمال القرآن الكریم لها جعلها متمیّزةً بل معجزةً في هٰذا المجال، فأصبحت هدًى للمتّقین وكتابًا للعالمین.
فنحن الیوم لا بدّ علینا أن نستخدم الآلیّات العصریّة في مجال التواصل من كتابة الروایات والقصص إلی إخراج الأفلام والمسلسلات إلی التسليات الإلكترونیّة وغیرها من الآلیّات والوسائل، فأنا علی یقینٍ أنّنا سنتمكّن من صناعة المحال بعرضٍ معجزٍ غریبٍ في مجال العقیدة والمعارف الحقّة.

7-هناك بعض التیّارات المنحرفة فكریًّا تظهر بین الحین والآخر في مجتمعاتنا، وتستغل قضایا من قبیل القضیّة المهدویّة وغیرها، ما أسباب ظهور تیّاراتٍ كهٰذه؟ وما طرق العلاج الصحیحة لهٰذه العقائد المنحرفة؟
إنّ من أسباب ظهور مثل هٰذه التیّارات الشعور بالفجوة والثغرة العقدیّة الموجودة في صمیم مجتمعنا الولائيّ، وهٰذا بسبب الجهل وعدم الإحاطة بالأسس والأصول، والابتعاد من التفسیر الصحیح للدین، فالانتهازیّون والمستعمرون یستغلّون هٰذه الثغرة ویخترقون شبابنا وفتیاتنا بشعاراتٍ رنّانةٍ وخلّابة؛ ممّا یعشقها كلّ موالٍ، وأيّ شعارٍ أجمل وأروع ممّا یرتبط بإمام زماننا #؟!
وأمّا واجبنا فهو الجهاد وإعداد جمیع الإمكانیّات والآلیّات لتثقیف الأمّة وأبعادها من كلّ أنواع الجهل والجهالات، بأن یترعرع في مجتمعنا جیلٌ وبراعم من جیل التوحید وبراعم الإیمان. والآلیّات یجب أن تكون منسجمةً ومتناغمةً مع مقتضیات العصر ومستوی المجتمع كما وضّحت في جواب السؤال السابق.

8-ما أثر العقیدة في تحقیق الأمن النفسيّ والفكريّ للإنسان المعاصر؟
البشریة الیوم رغم التقدّم التقنيّ والتطوّر الصناعيّ وتهیئة كثیرٍ من أسباب الراحة الجسدیّة والمادیّة إنّما تعیش قلقًا نفسیًّا واضطراباتٍ روحیّةً ومعنویّةً قد آلت أن تودي بشبابنا وفتیاتنا إلی مهاوی الانطواء والكآبة؛ فما هو الحلّ؟ الحلّ هو العقیدة الإیمانیّة، فقد قال المولی الحكیم سبحانه وتعالی: ﴿فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلٰئِكَ لَهُمْ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [سورة الأنعام: 81 و82] ،  وقال أيضًا: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذٰلك هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [سورة يونس: 62 – 64]، وأيضًا: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [سورة الأحقاف: 13]، ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ﴾ [سورة النحل: 98 – 100]. وعشرات الآيات والروايات تنصّ علی ذٰلك.

9-منشأ الاختلاف الدینيّ والمذهبيّ هو العقیدة والرؤیة الكونیّة، هل من آلیّةٍ تتّبع في تحجیم الخلاف والتقلیل من الاحتقانات الناشئة من ذٰلك؟
الوحدة سواءٌ كانت إسلامیّةً أو أممیّةً لها أبعادٌ عدیدةٌ من جملتها البعد العقديّ ویتجسّد ویتجلّی هٰذا البعد كما في قوله تعالی: ﴿إِنَّ هٰذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِي﴾ [سورة الأنبياء: 92]، فالّذي أراه جدیرًا التأسّي بالقرآن الكریم من خلال:
أوّلًا: تقلیل موارد الخلاف وتكثیر نقاط التلاقي والاتّفاق، فهٰذا القرآن - مع كثرة ما یوجد من الخلاف بین الدیانة التوحیدیّة الإسلامیّة والدیانات المحرّفة زمن التنزیل - یقلّل الكثیر من موارد الخلاف ویكثّر القلیل، ویغضي عن المهمّات لأجل إنجاز الأهم: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ﴾ [سورة آل عمران: 64].
ثانیًا: فتح المجال للتبریر والتوجیه ویكون للاحتمال دورٌ في تقلیل الاحتقانات بتأویل ما یكون ظاهره كفرًا أو باطلًا، والاكتفاء بإقرار الآخرین، ولانرمي كلّ من اجتهدنا من كلامه أو فعله ما یتناغم وینسجم مع معتقدنا بالكفر والارتداد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذٰلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ [سورة النساء: 94].
وثالثًا ولیس أخیرًا: فتح باب الحوار في نطاقه الواسع مع الأخلاق في الأدب في الحوار، وكفانا درسًا أدب رسول الله (ص) الّذي علّمه ربّه في الحوار مع المخالفین دینیًّا ومذهبیًّا: ﴿قُلْ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [سورة سبإٍ: 24] ، ولم يقل "إنّا لعلی هدًی وأنتم في ضلالٍ مبینٍ"!
والحمد لله ربّ العالمين.

يمكنكم الإطلاع على العدد بشكل كامل  هنا

شاهد المطلب في رابط التالي:

https://aldaleel-inst.com/article/25