أجرت مجلّة الدليل حوارًا مع الأستاذ العلّامة السيّد منير الخبّاز وهو من أساتذة البحث الخارج المعروفين في الحوزة العلميّة، ومتخصّصٌ في البحوث الكلاميّة والعقديّة، وكان محور الحوار يرتكز حول موضوع إثبات وجود الإلٰه، ومسألة الإلحاد وأسبابها وطرق معالجتها، فكانت الأجوبة علميّةً ورصينةً وذات فائدةٍ كبيرةٍ، وفيما يلي نصّ الحوار:
ابتداءً نتقدّم إليكم بوافر الشكر والامتنان لقبولكم عناء إجراء هٰذا الحوار مع مجلّة الدليل.
سماحة السيّد لو سمحتم قدّموا لنا لمحةً عن حياتكم وسيرتكم العلميّة.
ولدت في عام 1965م في القطيف، وبعد أن درست في المدرسة الرسميّة المرحلتين الابتدائيّة والمتوسّطة في القطيف ذهبت إلی النجف الأشرف، وكان عمري آنذاك ثلاث عشرة سنةً، وفي عام 1978م درست في النجف الأشرف المقدّمات والسطوح العليا، وكان من أساتذتي في السطوح العليا المرحوم آية الله الشيخ مرتضی البروجرديّ، والعلّامة الحجّة السيّد حبيب حسينيان، ومن أساتذتي أيضًا العلّامة السيّد رضا المرعشيّ. عندما انهيت السطوح حضرت البحث الخارج لدی جمعٍ من العلماء منهم السيّد الخوئيّ والسيّد السبزواريّ والشيخ عليٌّ الغرويّ والشيخ بشيرٌ النجفيّ، ثمّ اقتصرت في الحضور في الأصول علی السيّد السيستانيّ (دام ظلّه)، وفي الفقه علی السيّد الخوئيّ (قدّس سرّه) مع السيّد السيستانيّ. وعندما جئت الی قمٍّ المقدّسة بعد رحيل السيّد الخوئيّ حضرت فترةً في بحث آية الله الشيخ الوحيد الخراسانيّ، ثمّ بحث آية الله الشيخ التبريزيّ، وبقيت مع الشيخ التبريزيّ اثنتي عشرة سنةً حتّی وفاته.
س 1: سماحة السيّد، كانت وما زالت مسألة وجود الخالق والإلٰه تأخذ حيّزًا كبيرًا في تأمّلات الفكر الإنسانيّ، ونجد أنّ الكثير من النصوص الشرعيّة تؤكّد أنّ معرفة الله - تعالى - وتوحيده والتعلّق به هو أمرٌ مركوزٌ في فطرة الإنسان، وربما يعبّر بعضها عنه بميثاق الفطرة، كيف يتسنّى لنا توظيف هٰذه النصوص في مسار التأمّلات العقليّة؟
إنّ معرفة الخالق على أقسامٍ ثلاثةٍ: المعرفة الفطريّة والمعرفة العقليّة والمعرفة الفلسفيّة، أمّا المعرفة الفطريّة فهي عبارةٌ عن ما غرسه الله في قلب كلّ إنسان وفي وجدانه من الشعور بقوّةٍ خارقةٍ، والتعلّق بها في وقت الخوف والحرج والاضطرار، إذ يجد الإنسان - حتّى الملحد الّذي لا يؤمن بالله - أنّ في غريزته وعمق وجدانه تعلّقًا بقوّةٍ غيبيّةٍ خارقةٍ عندما تطرأ عليه عوامل الخوف، وهٰذا ما أشار إليه القرآن الكريم بقوله: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾، وقال تبارك وتعالى: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾.
القسم الثاني هو المعرفة العقليّة، وهي عبارةٌ عن الوصول إلى الله - تبارك وتعالى - عبر الاستدلال العقليّ المبنيّ على مقدّماتٍ ونتيجةٍ، وقد أشار القرآن الكريم إلى هٰذا القسم من المعرفة في عدّة آياتٍ منها قوله تعالى: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾، وهو إشارةٌ إلى استحالة وجود الإنسان من لا شيء، أو إيجاد الإنسان لنفسه المستلزم للدور. وقال تبارك وتعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا﴾، وهي عبارةٌ عن دليلٍ إنّيٍّ يتشكّل بالاستدلال من الأثر على المؤثّر، وقال تبارك وتعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ﴾ إشارةً إلى أنّ شرارة الحياة لا يمكن أن يصنعها الإنسان، وإنّما يصنعها من كان نبعًا ومصدرًا للحياة.
والقسم الثالث من المعرفة هو المعرفة الفلسفيّة، وهي المعرفة الّتي تحتاج إلى ربطٍ بين المنظومات الفكريّة المختلفة، فعندما يتأمّل الإنسان في منظوماتٍ فكريّةٍ متعدّدةٍ، ويقوم بالربط فيما بينها، ويصل إلى نتيجةٍ من خلال هٰذا الربط، فهٰذا نسمّيه بالمعرفة الفلسفيّة التأمّليّة، وقد أشار القرآن الكريم إلى هٰذا النوع من المعرفة في قوله تعالى: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ فعندما يلاحظ الذهن مفهوم الملك ومفهوم القدرة ومفهوم الحياة والموت، يرى أنّ الحياة والموت - أي اقتران الحياة بالموت واجتماع الحياة والموت في هٰذا العالم المادّيّ - دليلٌ على القدرة المسيطرة الجبروتيّة على أرجاء هٰذا الكون، وعندما يتأمّل في مفهوم القدرة الّتي من أجلى مصاديقها الحياة والموت، ينتقل منها إلى مفهوم الملك؛ فإنّ الملك الحقيقيّ هو ملك القدرة على السيطرة على الكون والقدرة من أجلى مصاديقها ومظاهرها، إنّه من يملك الحياة ومن يملك الموت؛ ولذٰلك نجد ارتباطًا بين هٰذه المنظومات وهٰذه المفردات يظهر بالتأمّل والتدبّر.
وعندما نلاحظ قوله تعالى: ﴿ أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ﴾ ﴿ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ﴾ ﴿ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ﴾ فإنّ قيام الذهن بتحليل هٰذه المفردات والربط فيما بينها يوصله إلى أنّ هناك جامعًا بين هٰذه المظاهر كلّها، وهو شرارة الحياة، ففي المادّة المنويّة شرارة الحياة، وفي الحرث والنبت شرارة الحياة، وفي الماء مصدرٌ ومنبعٌ للحياة، فالجامع بين هٰذه المظاهر الثلاثة هو نبع الحياة وشرارة الحياة؛ لذٰلك إنّما استشهد بها مع حقارتها بنظر الذهن البشريّ الساذج لأنّه يريد أن ينطلق من هٰذه المظاهر الثلاثة للاستدلال على أنّ هناك ماءً ونفسًا واحدًا وهو نفس الحياة لا يصدر إلّا من الحيّ القيّوم، كما في قوله تعالى: ﴿ اللهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾. فهناك أيضًا ربطٌ بين القيوميّة وبين قوله لا تأخذه سنةٌ ولا نومٌ، وهناك ربطٌ بين الوحدانيّة وقوله تعالى: ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾، وهناك ربطٌ ما بين هٰذين الأمرين وهما القيوميّة والوحدانيّة وبين الحياة، فإنّ الّذي يكون متّصفًا بالوحدانيّة والقيوميّة إنّما يكون حيًّا ومنبعًا للحياة، فهٰذه أقسام المعرفة الإلٰهيّة الّتي نستقيها من القرآن الكريم.
س 2: هناك شبهةٌ متداولةٌ عند الملحدين، وهي أنّ الإيمان بوجود خالقٍ للكون والإنسان كان في مرحلة قبل الاكتشافات العلميّة، حينما كان هناك فراغٌ علميٌّ، أمّا ونحن نعيش اليوم عصر التكنولوجيا والاكتشافات العلميّة فقد انتفت الحاجة إلى الإلٰه أو ما يسمّى بإلٰه الثغرات. كيف تجيبون عن هٰذه الشبهة؟
بيانه بذكر وجهين، الوجه الأوّل أنّ هناك فرقًا بين العلل الإعداديّة والعلل المفيضة، فالعلل الإعداديّة ما به الوجود، والعلل المفيضة ما منه الوجود، مثلا إذا أراد الإنسان أن يمشي فإنّ تحقّق المشي منه يفتقر إلى قدرةٍ منبثّةٍ في عضلات جسمه، لٰكنّ هٰذه القدرة علّةٌ إعداديّةٌ لوجود المشي، فبها يتحقّق وجود المشي، لٰكنّ العلّة المفيضة - وهي ما منه الوجود - ليست هٰذه القدرة المبثوثة في العضلات، وإنّما هي الروح الّتي هي منبع الحياة، فالروح الّتي تبثّ الحياة في هٰذا الجسم هي بنفسها تبعث القدرة والإرادة بشكلٍ متجدّدٍ؛ ليتحقّق بهٰذين العاملين (القدرة والإرادة) تحقّق المشي خارجًا، فالروح ما منه الوجود، بينما القدرة ما به الوجود، وكذٰلك الإنسان إذا غرس البذرة في التربة وحفّها بالسماد وسقاها بالماء فتولّدت الشجرة المثمرة من تلك البذرة، فإنّ البذرة علّةٌ إعداديّةٌ، بمعنى ما بها الوجود، ولٰكنّ العلّة المفيضة وهي شرارة الحياة هي ما منه الوجود، فلا بدّ من التفريق الدقيق بين ما به الوجود وما منه الوجود، والعلّة الإعداديّة والعلّة المفيضة؛ ولذٰلك نقول عندما يكشف علم الفيزياء أنّ نظام هٰذا الكون والحركة الوجوديّة في هٰذا الكون تفتقر إلى القوى الأربع، القوّة النوويّة الشديدة، والقوّة النوويّة الضعيفة، والقوّة الكهرومغناطيسيّة، وقوّة الجاذبيّة، بحيث لولا هٰذه القوى الأربع الّتي تحكم مسيرة الكون لما ائتلفت أنظمته، ولما ثبتت قوانينه، ولٰكن اكتشاف علم الفيزياء لهٰذه القوى الأربع لا يعني لغويّة البحث عن الإلٰه الخالق؛ لأنّ هٰذه القوى الأربع هي عللٌ إعداديّةٌ ممّا به الوجود، ولٰكنّ ما منه الوجود وهو العلّة الأولى، والسبب الّذي ليس وراءه سببٌ لا يمكن أن يصل علم الفيزياء إلى نفيه؛ لذٰلك فاكتشاف أنّ هٰذا الكون يسير بأنظمةٍ علميّةٍ دقيقةٍ لا يغني عن الاعتقاد بأنّ وراء شرارة الكون قوّةً غيبيّةً فجّرت هٰذا الكون بالعلم والقدرة والحكمة، فإنّ تلك القوة هي ما منه الوجود بينما القوى الّتي تحكم هٰذا الكون هي ما به الوجود.
الوجه الثاني أنّ هناك فرقًا بين دور الفلسفة ودور العلم، فقيام هٰذه النظريّات الآليّة الّتي قامت عليها فيزياء نيوتن وأنشتاين ونظريّة فيزياء الكمّ الّتي تتحدّث عن الجسيمات تحت الذرّيّة الّتي لا تحكمها القوانين الآليّة الّتي توصّل إليها نيوتن وأمثاله، والنظريّة البيولوجيّة، وهي نظريّة تطوّر الأنواع ورجوع كلّ الكائنات الحيّة إلى سلفٍ مشتركٍ (المعبّر عنها بالنظريّة الداروينيّة)، كلّ هٰذه النظريّات لا تجيب عن مسألة الخالق، بل مسألة وجود الخالق خارجةٌ عنها موضوعًا وتخصّصًا؛ لأنّ جميع هٰذه النظريّات تجيب عن سؤال كيف هو؟ وأمّا السؤال لم هو؟ فلا يمكن أن تجيب عنه هٰذه النظريّات العلميّة، فيمكن للعالم الفيزيائيّ من حقل فيزياء الكمّ أن يتحدّث عن حركة الإلكترون حول نواة الذرّة، فهو بحديثه يجيب عن سؤال كيف هو؟ أي كيف هي الحركة. إلّا أن هٰذا يقع في جواب كيف هو؟ فعندما نتساءل كيف حركة الوجود وكيف انطلق الوجود من نقطة التفرّد إلى نقطة هٰذا الوجود المنتظم بمجرّاته ونجومه وذرّاته؟ فإنّ هٰذا هو موضوع العلوم الآليّة والفيزيائيّة والبيولوجيّة، ولٰكن عندما نطرح السؤال لم هٰذا الوجود أي ما هو مبدأ المبادئ وما هو علّة العلل؟ نحن نعرف أنّ الماء إذا بلغت درجة حرارته مئةً فإنّه يغلي وتتفرّق أجزاؤه نتيجة انتشار الحرارة بين أجزائه، لٰكن لم هٰذا الوجود؟ لم وجدت النار وهي تحمل في باطنها الحرارة؟ لم وجد الماء بهٰذا النحو الّذي يقبل تفرّق أجزائه إذا بلغت درجة حرارته مئةً؟ عندما نقف عند هٰذا السؤال لم هٰذا الوجود؟ فإنّنا نسأل عن تأثير مبدإ المبادئ وعلّة العلل، وهٰذا سؤالٌ لا يجيب عنه إلّا علم الفلسفة، وليس العلم التجريبيّ الطبيعيّ، من ذٰلك نعرف أنّ ما عبّر عنه دوكنز في (وهم الإلٰه) من أنّ الله هو إلٰه الثغرات، إنّما هو كلمةٌ خطابيّةٌ ومغالطةٌ واضحةٌ؛ لأنّ البحث عن الإلٰه أجنبيٌّ عن البحث عن تفسير كيفيّة الوجود، فالبحث عن الإلٰه بحثٌ عمّا منه الوجود، والبحث عن تفسير مسيرة الوجود بحثٌ عمّا به الوجود، والبحث عن مبدإ المبادئ بحثٌ يقع في جواب لم الوجود؟ والبحث عن العلاقات الّتي تحكم مسيرة الكون هو بحث عن كيفيّة الوجود، فلا ربط لأحد البحثين بالآخر، وحيث يؤمن الإنسان بعقله الفطريّ بمبدأ السببيّة، وأنّ جميع الأسباب لابدّ أن ترجع إلى سببٍ سببيّته ذاتيّةٌ له بحيث لا يحتاج إلى سببٍ آخر، فهٰذا الإيمان فطريٌّ يتكفّل بتفسير حقيقة الإلٰه ولا يغني عنه أيّ اكتشافٍ أو تفسيرٍ علميٍّ آخر.
س 3: العالم بأسره يتّجه نحو المنهج الحسّيّ، وتعدّ المعطيات الحسّيّة هي الحقائق المطلقة، يا ترى ما هي قيمة هٰذا المنهج بمقارنته مع المنهج العقليّ في الوصول إلى الحقائق الكونيّة؟
لقد ظهرت المدرسة الوضعيّة في القرن التاسع عشر وفي الربع الأوّل من القرن العشرين، حيث اجتمع ثمانيةٌ من علماء الغرب في فيينا وأصدروا بيانًا سمّوه الفهم العلميّ للعالم، وقرّروا من خلال البيان أنّ العالم إنّما تحكمه القوانين العلميّة والطبيعيّة، فلا حاجة فيه إلى فرضيّة الخالق، وتطوّر هٰذا المنطق إلى قاعدةٍ، وهي أنّ كلّ نظريّةٍ لا يمكن إثبات مضمونها فهي قضيّةٌ لا معنى لها، والمقصود بذٰلك أنّ كلّ ما لا يمكن إثبات صحّة مضمونه بالدليل التجريبيّ الحسّيّ فهي قضيّةٌ لا معنى لها؛ ولذٰلك ما يطرحه الفلاسفة من أنّ لكلّ جوهرٍ وجودًا وراء أعراضه - فالتفّاحة لها أعراضٌ كاللون والطعم والرائحة، ولها جوهرٌ وراء هٰذه الأعراض - هٰذه القضيّة لا معنى لها؛ إذ لا يمكن إثباتها بالمعطيات الحسّيّة، وهٰكذا حال سائر القضايا الفلسفيّة، وبما أنّ وجود الخالق من القضايا الّتي لا يمكن إثباتها بالمعطيات الحسّيّة، فهي من القضايا الّتي لا معنى لها عندهم، واستدلّوا بأنّه لو أنكرنا وجود الخالق فإنّ الكون سيسير على كلّ حالٍ طبق أنظمةٍ وقوانين، سواءٌ فرضنا خالقًا لها أم لم نفرض، وهٰذه الأطروحة هي الإرث الّذي بني عليه قانون المعرفة في العصر الحديث، وهٰذه نقطةٌ جوهريّةٌ بين المدرسة الوضعيّة والمدرسة الفلسفيّة؛ إذ يمكن المناقشة في هٰذه القاعدة، بأن يقال: ما هو المقصود بأنّ للقضية معنًى؟ يوجد احتمالان.
الاحتمال الأوّل: أنّ الميزان في كون القضيّة ذات معنًى أن تكون قضيّةً حسّيّةً، فقضيّة نزول المطر في الشتاء قضيّةٌ ذات معنًى؛ لأنّه يمكن إثبات صدقها بالمعطيات الحسّيّة. فإن كان مقصود المدرسة الوضعيّة من هٰذه القاعدة هو هٰذا، فلا يمكن إثبات القوى الأربع الّتي تحكم الكون وهي القوّة النوويّة الشديدة والقوّة النوويّة الضعيفة والقوّة الكهرومغناطسيّة وقوّة الجاذبيّة؛ لأنّنا لا نرى لها معطًى حسّيًّا.
الاحتمال الثاني: أن يكون الميزان هو وجود أثرٍ حسّيٍّ للقضيّة، وإن لم تكن نفسها ذات معطًى حسّيٍّ كالجاذبيّة مثلًا؛ فلذٰلك نعدّ وجود الجاذبيّة قضيّةً صادقةً؛ لأنّ لها أثرًا حسّيًّا، فإن كان مقصود المدرسة الوضعيّة هو هٰذا، إذن فقضيّة الله خالق الكون مصداقٌ لهٰذه الضابطة؛ لأنّها وإن لم يكن لها مضمونٌ حسّيٌّ لٰكنّ لها آثارًا حسّيّةً، ومن أجل توضيح ذٰلك نرجع إلى البرهان الرياضيّ المعبّر عنه بدليل حساب الاحتمالات ونتحدّث عنه باختصارٍ، مثلًا إذا نظرنا إلى عوامل الحياة في كوكب الأرض، فإنّ الحياة عليها لم توجد صدفةً واعتباطًا، بل توجد عوامل لولا وجودها لما تحقّقت الحياة على الأرض، ومن هٰذه العوامل حجم الأرض، فإنّه لو زاد لمنعتنا الجاذبيّة من الحركة، ولو نقص لما ثبتت الأشياء على الأرض بل تبعثرت في الهواء، ومنها الغلاف الجويّ المحيط بالأرض الّذي مقداره 800 كيلومتر، فلو كان أكثر لما كان للإنسان أن يتحرّر منه، ولو كان أقلّ لتعرّضنا إلى خطر النيازك، ومنها المسافة بين الأرض والشمس، إذ لا يمكننا أن نعيش على أرضٍ بلا شمسٍ، لٰكنّ المسافة بيننا وبين الشمس محدودةٌ برقمٍ معيّنٍ، وهو 39 مليون ميلٍ، فلو كانت المسافة أقلّ لاحترق كلّ شيءٍ، ولو كانت أكثر لتجمّد كلّ شيءٍ، ومنها نسبة الأوكسجين في الغلاف الجوّيّ، إذ يشكّل 21 بالمئة منه، والنيتروجين الّذي يشكّل 78 بالمئة، ولو قلّت النسبة لما أمكننا التنفّس، ولو زادت لاحترقت الموادّ القابلة للاشتعال، ومنها نسبة الماء والتراب، إذ لو زادت أو نقصت لأثّر ذٰلك على الحياة على الأرض، فمن مجموع هٰذه الأمور نتساءل: من الّذي وضع الأمور بهٰذه الدقّة؟ ومن الّذي وضع هٰذه النسب الدقيقة الّتي لولاها لماتت الحياة على الأرض؟ وهل يمكن أن يحدث هٰذا صدفةً؟ وهل يمكن عقلًا اجتماع هٰذه العوامل والأمور صدفةً هٰكذا من دون سببٍ وبلا قوّةٍ حكيمةٍ؟ هٰذا حال نظامٍ واحدٍ وهو الأرض، فكيف بحال الكون بمجموع مجرّاته وذرّاته؟! فعندما نلاحظ خريطة الكون كلّه نرى أنّ في كلّ ذرّةٍ منه عالمًا مؤسّسًا على نظامٍ دقيقٍ، فالشمس تحكمها قوانين، والنبات يحكمه قوانين، والذرّة تحكمها قوانين، وما تحت الذرّة من البروتون والنيترون والإلكترون تحكمها قوانين؛ لذٰلك فاحتمال حصول هٰذا الكون عن صدفةٍ احتمال واحدٍ بالمليار، وهٰذا الاحتمال ليس له قيمةٌ رياضيّةٌ، وبعبارةٍ أخرى كلّما ضربنا هٰذا الاحتمال فيما هو أعلى منه، سوف تتراكم الاحتمالات حتّى نصل إلى حدّ اليقين الرياضيّ بوجود قوّةٍ حكيمةٍ، وهٰذا يعني أنّ قضيّة (الله خالقٌ) ذات آثارٍ حسّيّةٍ يمكن إثباتها بدليل حساب الاحتمالات، والنتيجة أنّ المدرسة الوضعيّة تؤمن بأنّ القضيّة ما لم تكن حسّيّةً لا قيمة لها، وفي المقابل تقول القاعدة الفلسفيّة إنّه لا يمكن للتجربة الحسّيّة أن تثبت قانونًا واحدًا ما لم تستند إلى مبادئ عقليّةٍ، فهٰذا الكون يقوم على مجموعةٍ من القوانين الذكيّة، وهٰذه القوانين نكتشفها بالتجربة، إلّا أنّ التجربة لا يمكن أن تكشف لنا هٰذه القوانين الذكيّة إلّا بأربعة مبادئ عقليّةٍ، وهي العلّيّة والحتميّة والسنخيّة والحاجة الذاتيّة، ومن أجل توضيح هٰذه الفكرة نضرب مثالًا فنقول:
من القوانين الذكيّة الموجودة في هٰذا الكون أنّ كلّ ماءٍ تبلغ درجة حرارته مئةً يغلي في الظروف العاديّة، وقد اكتشف البشر هٰذا القانون بالتجربة مع أنّهم لم يقيموا التجربة على كلّ ماءٍ، وإنّما أقاموها على مليون عيّنةٍ من الماء أو أكثر، فكيف وصلوا إلى هٰذه القاعدة الكلّيّة؟
إنّ الوصول لهٰذا القانون الكلّيّ اعتمد على أربعة مبادئ:
الأوّل: السببيّة، وقد ذكر بعض علماء الغرب أنّه لا يؤمن بهٰذا المبدإ، وإنّما يؤمن بأنّ لكلّ أثرٍ مؤثّرًا، ومن الواضح أنّ هٰذا لا يغيّر من المعنى شيئًا، سواءٌ قلنا لكلّ مسبّبٍ سببٌ أو لكلّ أثرٍ مؤثّرٌ، فالمعنى واحدٌ وهو أنّ الشيء لا يمكن أن يولد من لا شيء؛ لذٰلك لا بدّ للغليان من سببٍ وهو وصول درجة الحرارة إلى مئةٍ، ومن غير الإيمان بمبدإ السببيّة لا يمكن الوصول إلى السبب الكلّيّ.
كما أنّ من يدّعي أنّ العلاقة بين الحوادث في الكون هي مجرّد علاقة التقارن، فمثلًا حركة اليد تقترن بها حركة المفتاح، ويقترن بحركة المفتاح انفتاح الباب من دون أن يكون بين هٰذه الحركات الثلاث سببيّةٌ ومسبّبيّةٌ، فلو قلنا بهٰذا لما تمكّنّا بأيّ تجربةٍ ذات معطياتٍ حسّيّةٍ أن نكتشف قانونًا، ما لم نؤمن بمبدإ السببيّة في مرتبةٍ سابقةٍ.
المبدأ الثاني: الحتميّة، فلو كان هٰذا القانون المبنيّ على العلّيّة غير حتميٍّ، بمعنى أنّه قد يصيب تارةً ويخطئ أخرى بشكلٍ عشوائيٍّ، لما أمكننا أن نؤمن بأيّ قانونٍ كلّيٍّ، فلا بدّ أن نؤمن أنّ العلّيّة علّيّةٌ حتميّةٌ لا تختلف ولا تتخلّف.
والمبدأ الثالث: السنخيّة، أي لا بدّ من وجود تناسبٍ بين العلّة والمعلول، بمعنى أنّ المعلول هو وجودٌ نازلٌ من رحم العلّة ومن صميم وجودها، ولا يمكن أن يخرج شيءٌ من رحم شيءٍ ومن صميم وجوده من دون تناسبٍ بينهما، فلولا الإيمان بالسنخيّة لما استطعنا أن نستنتج القوانين الكلّيّة أيضًا. وبعبارة أخرى: السنخيّة هي الحيثيّة المصحّحة لصدور المعلول من هٰذا الموجود دون ذٰلك الموجود.
وهٰذا الاحتمال لا يمكن نفيه ما لم نؤمن بالسنخيّة؛ إذ إنّ الغليان مسانخٌ للحرارة لا لحركة الرياح، ولا للإشارات الكهربائيّة بأيّ جهازٍ آخر؛ لأنّ الغليان من سنخ الحرارة، فقلنا إنّه معلولٌ لها.
والمبدأ الرابع: حاجة المعلول إلى العلّة حاجةً ذاتيّةً، وليست مجرّد حاجةٍ حدوثيّةٍ، فمثلًا ضوء المصباح له علّةٌ وهي القوة الكهربائيّة، ولو انفصلت هٰذه القوّة آنًا لانتفى الضوء، وكذا علاقة الضوء بالشمس، وكذا علاقة أيّ مسبّبٍ بسببه، فإنّها علاقة فيضٍ ومددٍ، ولا بدّ أن يبقى فيض العلّة متواصلًا كي لا ينقضي المعلول، وإلّا لا يتصوّر بقاءٌ للمعلول دون بقاء مدد العلّة؛ لذٰلك لا يتصوّر أن يتولّد الغليان عند بلوغ درجة حرارة الماء مئةً ما لم يكن لبلوغ درجة الحرارة نبعٌ من المدد والفيض الّذي يوجد هٰذه الظاهرة. فالنتيجة أنّنا لا بدّ أن نرتكز على أنّ للقضايا معنًى وراء المعطيات الحسّيّة، ومنها قضيّة خالقيّة الله للكون.
س 4: سماحة السيّد هل الأدلّة العقليّة على إثبات وجود الإلٰه والخالق كلّها على مستوًى واحدٍ من حيث القيمة المعرفيّة، أو هناك تفاضلٌ بينها؟ بمعنًى آخر هل هناك دليلٌ عقليٌّ على إثبات واجب الوجود أقوى من دليلٍ عقليٍّ آخر بحيث يحصل للإنسان من خلاله اليقين الثابت غير المتزلزل؟
أهمّ الأدلّة على وجود الخالق:
الأوّل: برهان الاختراع، وهو يعتمد على مقدّمةٍ حسّيّةٍ، إذ إنّ المشهود بالوجدان أنّ كلّ شيءٍ في عالم المادّة يخرج من القوّة إلى الفعل، ومقدّمةٍ عقليّةٍ وهي أنّه لمّا كان الشيء لا يعقل أن يخرج نفسه فلا بدّ من سببٍ خارجيٍّ نقله من القوّة إلى الفعل، وهٰذا السبب إمّا موجودٌ بالقوّة فيحتاج إلى سببٍ آخر، أو ينتهي إلى سببٍ بالفعل من كلّ الجهات، ولمّا كان الفرض الأوّل يستلزم التسلسل، فيتعيّن الفرض الثاني وهو انتهاء الأسباب إلى سببٍ بالفعل من كلّ الجهات.
الثاني: برهان الإمكان وهو ما يعتمد على التسليم بأصل الواقعيّة، وأنّ هناك موجودًا ما، ونفس ذواتنا تدرك ذٰلك الواقع، ويتألّف هٰذا البرهان من مقدّمتين عقليّتين:
الأولى: أنّ هٰذا الموجود المفترض مردّدٌ عقلًا بين كونه واجب الوجود، أي أنّ الوجود عين ذاته، أو ممكن الوجود، أي أنّ الوجود عارضٌ على ذاته، فهو مؤلّفٌ من ذاتٍ ووجودٍ، ممّا يعني أنّ عروض الوجود على هٰذه الذات يستبطن أنّها في نفسها خاليةٌ عنه، ومتساوية النسبة إلى طرفي الوجود والعدم.
المقدّمة الثانية: أنّ هٰذا الموجود إن كان واجبًا فقد ثبت المطلوب، وإن كان ممكن الوجود لزم أنّه محتاجٌ في اتّصافه بالوجود إلى الغير؛ لأنّ الوصف العارض على الشيء يحتاج الشيء لاتّصافه به إلى غيره، فإن كان ذٰلك الغير واجب الوجود - أي أنّ وجوده ذاتيٌّ له - فهو المطلوب، وإن كان ممكن الوجود احتاج إلى غيره، وما لم ينته إلى واجب الوجود لزم التسلسل المحال.
الثالث: برهان النظم الّذي يعتمد على عنصرين:
عنصر السببيّة: فلكلّ حادثٍ وعنصرٍ فعلٌ محكمٌ، والمراد به أنّ هناك عناصر وقوانين ومادّةً وهيئةً، فتطويع القوانين لتطوير المادّة إلى هيئاتٍ متعدّدةٍ يترتّب عليه الأثر، وهو الفعل المحكم، وهو بذاته يدلّ على قوّةٍ قادرةٍ عالمةٍ.
مقارنةٌ: اذا قمنا بالمقارنة بين البراهين الثلاثة وجدنا أنّ أقواها من الناحية العقليّة هو برهان الإمكان، ولٰكنّ أقربها للذهنيّة الرياضيّة الفيزيائيّة الحديثة هو برهان النظم؛ ولذٰلك ركّز جمعٌ من الأعلام على برهان النظم كالسيّد الشهيد الصدر في مقدّمة الفتاوى الواضحة، ويمكن لنا صياغة هٰذا البرهان بأسلوبٍ ينسجم مع الذهنيّة الرياضيّة، ونقول: إنّ كون برهان النظم برهانًا منتجًا يعتمد بشكلٍ رئيسٍ على دليل حساب الاحتمالات، وهو يتألّف من خطواتٍ، الأولى جمع الظواهر، والثانية المقارنة بين الفرضيّات، والثالثة التناسب العكسيّ، بمعنى أنّه كلّما تضاءلت درجة احتمال الفرضيّة الثانية تصاعدت درجة احتمال الفرضيّة الأولى، فإذا افترضنا أنّ الفرضيّة الثانية ضئيلةٌ بحيث تكون نسبة تحقّقها واحدًا بالمئة، فإنّ احتمال الفرضيّة الأولى يصل إلى تسعةً وتسعين بالمئة، فهل يمكن تطبيق دليل حساب الاحتمالات؟ وكيف نطبّق دليل حساب الاحتمالات على الظواهر الكونيّة لإثبات الوجود الإلٰهيّ؟ وهنا زاويتان، الزاوية الأولى مميّزات الكون، إنّ كوننا الّذي نعيش فيه يتميّز بثلاث صفاتٍ، الأولى أنّه قابلٌ للفهم، وهٰذا ما تحدّث عنه أينشتاين عندما قال: إنّ أكثر الأمور استعصاءً على الفهم أنّ الكون قابلٌ للفهم، إنّ كونًا فوضويًّا لا يمكن إدراك أحداثه ولا التنبّؤ بمساره هو النتيجة البدهيّة للانفجار الكونيّ الأعظم، فالنظام والقابليّة للفهم والتوقّع الّذي تظهره جاذبيّة نيوتن مبهرٌ ومعجزةٌ لا يمكن توقّعه من سيناريو بداية الكون، والصفة الثانية أنّ الكون قابلٌ للفهم الرياضيّ بالذات، وهٰذا ما تحدّث عنه بول ديوز حيث قال: ليس الكون قابلًا للفهم فحسب، بل هو قابلٌ للفهم الرياضيّ أيضًا، بمعنى أنّ بإمكاننا أن نتوصّل إلى قوانين بحساباتٍ رياضيّةٍ قائمةٍ في أذهاننا، ومع ذٰلك نرى أنّ هٰذه الحسابات والمعادلات الرياضيّة تتطابق مع واقع الكون؛ ولذٰلك توصل أينشتاين إلى نظريّة النسبيّة العامّة عبر معادلاتٍ رياضيّةٍ رأى أنّها تتناسب مع حقيقة الكون، ممّا يؤكّد فهم الكون فهمًا رياضيًّا. الصفة الثالثة: التوافق بين العقل البشريّ والكون كما ذكر "بنروز" (Roger Penrose) حيث يقول: أنا لا أستطيع أن أقتنع أنّ هٰذه النظريّات الرائعة نشأت بشكلٍ تلقائيٍّ، فالأنسب جدًّا أنّه لا يمكن نسبتها إلى التلقائيّة، إذن لا بدّ أن يكون هناك عقلٌ شديد الذكاء ربط بين الفيزياء والرياضيّات وهو الّذي مكّننا من فهم العالم فهمًا رياضيًّا حتّى صار انضباط الكون رياضيًّا من بدهيّات العلم الأوّليّة.
والحاصل أنّ الكون يتميّز بأنّه قابلٌ لفهمٍ رياضيٍّ دقيقٍ يكشف عن توافقٍ بين عقولنا وواقع الكون، وهٰذا التوافق يؤدّي إلى أن نكتشف أنّ وراء تصميم الكون وخلقه وجودًا عاقلًا. الزاوية الثانية تطبيق دليل حساب الاحتمالات على الكون، وهنا نرجع إلى كتاب (ستّة أرقامٍ فقط) لمارتين ريتس حيث ذكر أنّ هناك ستّة ثوابت رياضيّةٍ مضبوطةٍ بدقّةٍ عاليةٍ، ترتبط بصفاتٍ كونيّةٍ فيزيائيّةٍ هي المسؤولة عن نشأة هٰذا الكون واستمرار الحياة فيه. الثابت الأوّل ما يتعلّق بالتمدّد، والثابت الثاني ما يتعلّق بنشأة المجرّات، والثالث ما يتعلّق بقوّة الجاذبيّة، والرابع ما يتعلّق بالطاقة الصادرة من النجوم، والخامس ما يتعلّق بنسبة الروابط الكهربائيّة إلى قوّة الجاذبيّة، والسادس ما يتعلّق بنسبة بنية الكون الفراغيّة.
وبما أنّ للكون ستّة ثوابت رياضيّةٍ لها حدودٌ دقيقةٌ لا تزيد ولا تنقص فهل حصلت جميع هٰذه الثوابت بهٰذه الأرقام الرياضيّة الدقيقة صدفةً؟ عندما نعرض ذٰلك على دليل حساب الاحتمالات نقول يوجد عندنا احتمالاتٌ، إمّا أن تكون هٰذه الظواهر قد نشأت عن وجودٍ عاقلٍ، وإمّا أن تكون قد نشأت صدفةً، بمعنى أنّ وجود كلّ ظاهرةٍ صدفةٌ، وكونها بهٰذه النسب الرياضيّة الدقيقة صدفةٌ، واجتماعها في كونٍ واحدٍ صدفةٌ، والتناسق فيما بينها في العمل صدفةٌ، ومن الواضح أنّ هٰذا الاحتمال لا قيمة له، فعندما نقارن احتمال أن يكون وجود هٰذه الثوابت صدفةً بالنحو الّذي ذكرناه، مع احتمال أن يكون ذٰلك من خلق قوّةٍ عاقلةٍ، نجد أنّ الاحتمال الأوّل ضئيلٌ جدًّا، وقوّة الاحتمال الثاني له تناسب منطقي مع هٰذه الثوابت، فلا مقايسة أصلًا بين احتمال الصدفة واحتمال الخالق القدير: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ وقال تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾.
س 5: حاول ريتشارد دوكينز صاحب كتاب (وهم الإلٰه) وغيره من الملحدين التشكيك في الأدلّة العقليّة على وجود الخالق، وعدّوها فاقدةً للقيمة المعرفيّة من وجهة نظرهم، نرجو من سماحتكم بيان كيفيّة نقد تلك التشكيكات؟
من أهمّ الأمور الّتي ركّز عليها دوكنز في كتابه (وهم الإلٰه) هو استغلال نظريّة الانتخاب الطبيعيّ (نظريّة التطوّر) الّتي ذهب إليها دارون، وهي عبارة عن وجود سلفٍ مشتركٍ لكلّ الكائنات الحيّة الحيوانيّة، وبسبب تغيّر الظروف تولّدت طفراتٌ جينيّةٌ متمايزةٌ بشكلٍ تدريجيٍّ، بعضها يثمر في تكيّف الكائن الحيّ مع المحيط وبعضها متلفٌ ضارٌّ، وتتكفّل الطبيعة باقتضائها إبقاء التمايزات النافعة ونبذ الضارّة، ثمّ تتوارث الكائنات الحيّة هٰذه الجينات الجديدة الّتي تصبح بدورها مصدرًا لأنواعٍ متعدّدةٍ من الكائنات الحيّة. فقد ذكر دوكنز في كتابه (وهم الإلٰه) كيفيّة استغلاله لهٰذه النظريّة بقوله إنّ حجّة الاحتماليّة تنصّ على أنّ الأشياء المعقّدة لا تأتي بالصدفة، بمعنى أنّها لا تأتي بدون غايةٍ لتصميمها؛ ولذٰلك فليس من المفاجئ أن يتصوّر بأنّ الاحتماليّة هي دليلٌ على التصميم. إنّ الانتخاب الطبيعيّ الداروينيّ يظهر لنا خطأ حجّة الاحتماليّة عند اعتبار عدم الاحتماليّات فيما يتعلّق بالبيولوجيا.
وعلى الرغم من أنّ الداروينيّة لا تتعلّق بشكلٍ مباشرٍ بالأشياء الجامدة كعلم الكون مثلًا، فإنّها ترفع مستوى الوعي خارج نطاق مجالاتها المحصورة بالبيولوجيا. وقال: ومرّةً أخرى التصميم الذكيّ ليس البديل الصحيح للصدفة، إنّ الانتخاب الطبيعيّ ليس حلًّا معقولًا فقط، بل إنّه الحلّ الفعّال الوحيد الّذي تمّ طرحه حتّى الآن بديلًا للصدفة المقترحة منذ الأزل.
فهو يريد استغلال هٰذه النظريّة لإثبات أنّ الكون أيضًا لا يدور مدار خطّين فقط وهما إمّا الصدفة أو التصميم، بل كما أنّ الكائن الحيّ انطلق في مسيرته عبر الانتخاب الطبيعيّ من دون أن يلجأ لسيناريو الصدفة ولا لمنهج التصميم، كذٰلك يمكن أن تكون ولادة الكون بهٰذا النحو ناشئةً عن الانتخاب الكونيّ لا عن الصدفة ولا عن التصميم؛ لذٰلك كلامه محلّ مناقشةٍ في تطبيق نظريّة الانتخاب على الكائنات الحيّة، فضلًا عن تطبيقها على الكون بأسره، وذٰلك من خلال عدّة ملاحظاتٍ:
الملاحظة الأولى: أنّه تصوّر احتمالًا ثالثًا بين الصدفة والتصميم، وهو الانتخاب الطبيعيّ، بينما هٰذا التصوّر غير منطقيٍّ، والسرّ في ذٰلك أنّ المحال لا يتغيّر من كونه قد حدث دفعةً أو حدث تدريجًا، وعلى نحو التدريج السريع أو على نحو التدريج البطيء، فلا يمكن أن يقال: إذا تحوّلت الخليّة الأولى إلى بعوضةٍ عبر ملايين السنين فهو أمرٌ ممكنٌ، وأمّا إذا تحوّلت دفعةً إلى إنسانٍ أو طيرٍ فهٰذا محال، فإنّ المحال يبقى محالًا سواءٌ حصل دفعةً واحدةً أو حصل بالتدرج البطيء. إنّ الخليّة الأولى إمّا واجدةٌ لجينات هٰذه الكائنات المتعدّدة أو غير واجدةٍ، فإن كانت واجدةً لها فتولّدها منها أمرٌ ممكنٌ دفعةً أو تدريجًا، سريعًا أو بطيئًا، وإن لم تكن واجدةً لجيناتها فلا يمكن تولّدها منها ولو عبر التدرّج البطيء لآلاف السنين، إذن ليس هناك احتمالٌ ثالثٌ وراء الصدفة والتصميم يعبّر عنه بالانتخاب، هٰذه هي الملاحظة الأولى.
الملاحظة الثانية: أنّ الانتخاب إمّا هادفٌ ناشئٌ عن تصميمٍ أو لا، فإن كان الأوّل كان تصميمًا لا انتخابًا، وإن كان الثاني كان صدفةً، إذ إنّ وجود الشيء بنفسه من دون سببٍ خارجٍ عن ذاته محالٌ، سواءٌ كان ذٰلك دفعةً أم تدريجًا.
الملاحظة الثالثة: أنّه كيف استطاعت المادّة العمياء أن تميّز بين أن تفرز التمايزات النافعة أو المميّزات النافعة من المميّزات الضارّة، بحيث تتوارث جيناتها هٰذه المميزات النافعة دون المميزات أو الصفات أو السمات الضارّة.
ورابعًا: أنّ المادّة إمّا واجدةٌ لطاقة التطوّر للأفضل أو لا، فإن كانت واجدةً لطاقة التطوّر للأفضل صحّ التطوّر بلا حاجةٍ للتراكم البطيء كما في تطوّر الجنين في بطن أمّه من نطفةٍ إلى إنسانٍ متكاملٍ، ﴿ ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ وإن لم تكن واجدةً لطاقة التطوّر فتحوّلها لإنسانٍ متكاملٍ محالٌ، ولا يجدي في ذٰلك التراكم ملايين السنين.
والملاحظة الخامسة: أنّ وجود سلفٍ مشتركٍ للكائنات الحيّة وتطوّرها عن طريق الصراع بين ما يقتضيه طبع الكائن الحيّ وما تقتضيه عوامل الظروف المحيطة، لا يلغي البحث عن الحاجة للمبدإ الأوّل الّذي هو منبع شرارة الحياة، فهو ليس مادّةً ولا طاقةً، وإنّما هو قوّةٌ وعقلٌ وعلمٌ؛ ولذٰلك قال فرانسس كولينز رئيس مشروع الجينوم البشريّ في الولايات المتّحدة: من الّذي يمنع الله عن استعمال آليّة التطوّر في الخلق؟! فالتطوّر آليّةٌ يستعملها الإلٰه تمامًا كما يستعمل آليّة الخلق الخاصّ.
والمناقشة الأخيرة: أنّ الحياة ليست أمرًا مادّيًّا يقع نتيجةً للصراع بين المادّة العمياء وبين العوامل المحيطة بهٰذه المادّة، بل الحياة عقلٌ وشعورٌ وإدراكٌ، ولتعميق هٰذه الجهة نقول إنّ الحياة ظاهرةٌ معلوماتيّةٌ وليست ظاهرةً كيميائيّةً. يقول أستاذ البايولوجيا الأمريكيّ كوفمان المولود عام 1939: إذا أخبرك أيّ إنسانٍ أنّه يعرف كيف نشأت الحياة على كوكب الأرض منذ حوالي ثلاثة مليارات وسبعمائة مليون سنةٍ، فإنّه إمّا جاهلٌ غبيٌّ أو محتالٌ، فلا أحد يعلم من أين جاءت المعلومات اللازمة لنشأة الحياة، ولا أحد يعلم كيف جاءت هٰذه المعلومات الّتي أحدثت هٰذا التنوّع الهائل أثناء الانفجار الأحيائيّ الكامبريّ.
لذٰلك يرد السؤال: كيف استطاعت الطبيعة دون تصميمٍ وتوجيهٍ أن توفّر المعلومات الهائلة المطلوبة لنشأة الحياة والّتي تبلغ ملايين بيتز في أبسط الكائنات الحيّة، فضلًا عن الكائنات المعقّدة كالإنسان.
وممّا يدلّل على ذٰلك أنّه في العشرين من أيّار عام 2010 أعلن عالم البايولوجيا الجزيئيّة الأمريكي الكبير وينتر أنّ فريقه البحثيّ قد حقّق بعد خمسة عشر عامًا من الجهد إنجازًا علميًّا كبيرًا يتلخّص في أنّهم تمكّنوا من تجميع الشفرة الوراثيّة DNA لإحدى الخلايا البكتيريّة من مكوّناتها الأوّليّة، ووضعوا هٰذه الشفرة في جسم خليّةٍ بكتيريّةٍ حيّةٍ من نوعٍ آخر بعد نزع شفرتها الوراثيّة، فإذا بالخليّة تمارس وظائفها الحيويّة كبناء البروتينات تبعًا للشفرة الجديدة، واعتقد أنّهم بذٰلك أصبحوا قادرين على صنع الحياة وقادرين على تخليق الخليّة الحيّة، مع أنّ ما قاموا به مجرّد استبدالٍ لمركّبٍ كيميائيٍّ معيّنٍ وهو c- DNA بمركّبٍ كيميائيٍّ آخر مصنّعٍ هو m- DNA.
فالـ DNA الّذي استبدلوه ليس هو منبع الحياة، إنّه فقط المعلومات المطلوبة لبناء بروتينات الخليّة وانقسامها، أما الخليّة نفسها فقد جاءوا بها بكلّ مكوّناتها؛ لذٰلك بما أنّ الحياة ظاهرةٌ معلوماتيّةٌ فإنّه لا يمكن أن تفرزها المادّة العمياء، وهٰذا ما يؤكّده القرآن الكريم عندما يقول: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ﴾، والتمثيل بالذباب ليس لأنّه المخلوق المعقّد فقط، بل لأنّه يحمل شرارة الحياة. فالإنسان لا يمكنه أن يخلق أو أن يصنع حبّة قمحٍ تدبّ فيها الحياة، فضلًا عن أن يصنع ذبابًا يحمل أسرار الحياة؛ ولذٰلك نرى القرآن الكريم يركّز على مسألة صنع الحياة. ومن أجل ترسيخ هٰذه النقطة نذكر أنّه منذ أن تمّ اكتشاف بنية الـ DNA وطريقة أدائه لوظائفه عام 1953 وما تبعه من تأسيس علم البايولوجيا الجزيئيّة، أدرك العلماء أنّهم يتعاملون مع علمٍ يقوم على أربعة حروفٍ، لا أنّهم يقومون مع مختبرٍ كيميائيٍّ مجرّدٍ. والسؤال المطروح كيف تمّ ترتيب هٰذه الحروف الأربعة؟ بحيث أصبحت مصدرًا لحياة الكائن الحيّ؟ ولذٰلك يضع جورج جونسون في كتابه (هل كان دارون مصيبًا) الداروينيّين أمام مفارقةٍ فيقول: إذا هبطت علينا من الفضاء الخارجيّ أسطوانةٌ مدمجةٌ تحمل المعلومات المسجّلة في شفرة أحد الكائنات الوراثيّة، فإنّ كلّ من يتلقّى ذٰلك يقطع فورًا بنسبة ألفٍ في ألفٍ على وجود ذكاءٍ في الكون خارج كوكب الأرض، فكيف إذا قرأنا هٰذه المعلومات مسجّلةً في الشفرة الوراثيّة للإنسان؟ فهل نقول إنّها وجدت صدفةً أو نتيجة التراكم التدريجيّ البطيء؟ ولذٰلك فإنّ كولنز مدير مشروع الجينوم البشريّ عندما تمّ الانتهاء من قراءة الخريطة الجينيّة، وما تمّ التوصّل إليه من المعلومات ممّا يساوي خمسةً وسبعين فاصلة أربعمئةٍ وخمسين صفحةً من صفحات جرائدنا اليوميّة قال: الآن علّمنا الله اللغة الّتي خلق بها الحياة.
س 6: ماذا تمثّل عقيدة إثبات وجود الله في الرؤية الكونيّة؟ وماذا يترتّب على معرفتها من الآثار على المستوى الأيديولوجيّ والسلوك الإنسانيّ؟
تأثير العقيدة بوجود الخالق لها تأثيرٌ على ثلاثة مستوياتٍ، على المستوى المعرفيّ والرؤية الكونيّة، وعلى المستوى الأيديولوجيّ في مجال إقامة الحضارة، وعلى مستوى السلوك الإنسانيّ والقيم البشريّة.
أمّا على المستوى الأوّل، فإنّ هٰذا يتجلّى لنا في أمرين:
الأمر الأوّل: من القواعد العقليّة الواضحة أنّ لكلّ وجودٍ مادّيٍّ عللًا أربعًا، فاعليّةً ومادّيّةً وصوريّةً وغائيّةً. وحيث إنّ الكون الّذي نعيش فيه وجودٌ مادّيٌّ فمن الطبيعيّ أن يتّجه العقل إلى معرفة العلل الأربع لهٰذا الكون، ولا تعدّ رؤية الكون رؤيةً متكاملةً ما لم تكن محيطةً بالعلل الأربع، ما منه الوجود وما به الوجود وما به فعليّة الوجود، وما هو غاية الوجود ومنتهى الوجود. فلأجل ذٰلك كانت المعرفة الإلٰهيّة للكون والرؤية الفلسفيّة للوجود معرفةً متكاملةً، بينما ما يصرّ عليه بعض علماء الفيزياء من أنّ العلم هو معرفة نظم الكون وأسراره الطبيعيّة وعلاقاته وقوانينه النافذة الحاكمة فيه، فإنّ هٰذا تقوقعٌ في حقلٍ معيّنٍ من المعرفة، وحصرٌ للمعرفة في النطاق المادّيّ لعلاقات الكون، لٰكنّها ليست معرفةً متكاملةً ما لم تكن محيطةً بالعلل الأربع؛ ولذٰلك فإنّ هناك فرقًا بين النظرة الموضوعيّة للكون والنظرة الآيويّة للكون، فمن يقرإ الكون لذاته على أساس أنّه وجودٌ مادّيٌّ بحتٌ، فهٰذه نظرةٌ موضوعيّةٌ لن يتجاوز بها حدود المادّة، ولن تكون معرفته بالكون معرفةً متكاملةً، وأمّا من قرأ الكون بما هو دليلٌ على علله الأربع، وأهمّها علّته الفاعليّة الّتي منها وجوده، وعلّته الغائية الّتي هي خاتمته ومنتهاه، فقد سبر الكون بما هو آيةٌ من آيات القدرة والعلم والحكمة، وهٰذا ما أشار إليه القرآن الكريم في حديثه عن النبيّ إبراهيم الخليل (ع): ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا ۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُ ۖ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾. وقال تبارك وتعالى: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾.
فالمعرفة الإلٰهيّة تجيب عن أسئلةٍ فطريّةٍ يلتفت إليها الذهن البشريّ، وهٰذه الأسئلة الّتي أشار إليها المعصوم (ع) في ما ورد عنه: «رحم الله أمرءاً عرف من أين وفي أين وإلى أين» فالعلم الّذي لا يجيب عن هٰذه الأسئلة الفطريّة الملحّة يعدّ علمًا ناقصًا ومعرفةً مبتورةً، وأمّا المعرفة الّتي تجيب عن هٰذه الأسئلة الضروريّة فهي المعرفة المتكاملة، وهٰذا ما يعني تأثير العقيدة الإلٰهيّة على مستوى الرؤية الكونيّة.
الأمر الثاني: توأميّة العلم والعقيدة: لا نقول إنّ العلم لا يستطيع أن يصل إلى تحديد السبب الأوّل والعلّة الأولى نفيًا أو إثباتًا فقط، بل نقول هناك توأميّةٌ بين العلم وبين الإيمان، فلولا الإيمان لما استطاع العلم أن يخطو خطواته نحو البحث والمعرفة.
قال أينشتاين: إنّ أعظم الأشياء استعصاءً على الفهم في الكون أنّه مفهومٌ، وقال سونبرن أستاذ الفلسفة المناهض للإلحاد في أكسفورد: عندما أتحدث عن الإلٰه فإنّني لا أطرح إلٰهًا لسدّ الثغرات الّتي لم يجب عنها العلم حتّى الآن، فأنا لا أنكر قدرة العلم على استكمال التفسير، لٰكنّني أطرح الوجود الإلٰهيّ لأفسّر لماذا صار العلم قادرًا على التفسير، وهٰذه المقالات تعني أنّ الإيمان يقف عونًا للعلم في اكتشاف الحقائق، وأنّه لولا الإيمان لم يتمكّن العلم من الوصول إلى تفسير الحقائق تفسيرًا متكاملًا. ومن أجل بيان هٰذه النقطة نذكر أنّ أيّ مسيرةٍ علميّةٍ اختراعيّةٍ تقوم على أربعة عناصر، العنصر الأوّل: الانتظام، ما لم يؤمن الإنسان بأنّ الأمور منتظمةٌ فإنّه لا يمكن أن يستمرّ أو أن يشرع في أيّ حقلٍ علميٍّ، فمثلًا ما لم يؤمن الإنسان أنّ مكان عمله ما زال باقيًا وأنّ الطريق إليه ما زال سالكًا، وأنّ سيّارته ما زالت تحمل الوقود الّذي يمكنه من الوصول إلى مقصده، فإنّه لن يتحرّك ما لم يؤمن بانتظام الأمور كما كانت؛ ولذٰلك يقول ديوز: إذا كانت الشمس تظهر من الشرق منذ أن وعينا، فليس لدينا دليلٌ جازمٌ على أنّها ستفعل ذٰلك غدًا، وهٰذا يعني أنّه ما لم يكن إيمانٌ بانتظام الطبيعة، فإنّه لا دافع ولا محرّك نحو المسيرة العلميّة.
العنصر الثاني: الثبات، يقول استيفن هوكنغ: كلّما ازدادت معرفتنا بالكون تأكّد يقيننا بأنّه محكومٌ بالقوانين. ويقول فيلمان عالم الفيزياء المشهور: إنّ وجود قوانين منضبطةٍ أمرٌ معجزٌ، إنّ هٰذا الانضباط لا تفسير له، لٰكنّه يمكّننا من التنبّؤ، فهو يخبرك بما تتوقّع حدوثه في التجربة قبل أن تجربها، وكذٰلك ذكر أينشتاين أنّ كلّ إنسانٍ يهتمّ بالعلم بصورةٍ جادّةٍ يدرك أنّ قوانين الطبيعة تعكس روح كلّيٍّ أسمى من الإنسان كثيرًا ، ولو لم يؤمن العالم أو المكتشف أو المخترع أو الباحث أنّ هناك ثباتًا للقوانين، أي أنّ هناك قوّةً تحكم هٰذه القوانين وتضفي عليها الثبات، لما سار في أيّ مسيرةٍ علميّةٍ يعتمد الاكتشاف بها على قوانين ثابتةٍ.
العنصر الثالث: فاعليّة الرياضيّات. توصّل العلم الحديث إلى أنّ كيان العالم وبنية الكون قائمٌ على التحديد عبر المعادلات الرياضيّة؛ ولذٰلك يقول ديراك عالم الفيزياء البريطانيّ: إنّ الإلٰه خالقٌ حسيبٌ، أي أنّه دقيقٌ في وضع القوانين والأنظمة على ضوء المعادلات الرياضيّة الدقيقة. وهٰذا يقود إلى أنّ قوانين الطبيعة جعل لها خالقها تفسيرًا وتحديدًا عبر ما يتوصّل إليه العقل البشريّ من الحدود والمعادلات الرياضيّة، فالّذي خلق الكون خلق عقلًا يفهم الكون، والّذي وضع القوانين الدقيقة لمسيرة الكون وضع عقلًا يتمكّن من اكتشافها عبر المعادلات الرياضيّة، وهٰذه هي التوأميّة بين الإيمان بالعقيدة الإلٰهيّة وبين المسيرة العلميّة.
العنصر الرابع: أنّه لا يمكن للإنسان أن يكتشف أو يخترع أو يفسر حقيقةً من حقائق الكون حتّى يؤمن في رتبةٍ سابقةٍ بأنّ عقله قادرٌ على فهم ذٰلك، وأنّ ما يقوله له عقله من تحديدٍ وتفسيرٍ فهو صادقٌ فيه، أي أنّ هناك انسجامًا وتوائمًا بين بنية الكون وبين القدرات العقليّة المعرفيّة.
إنّ الإيمان بهٰذه العناصر الأربعة بوصفها قوامًا لكيان الكون، وقوامًا لأيّ مسيرةٍ علميّةٍ اكتشافيّةٍ هو بنفسه إيمانٌ بأنّ العقيدة الإلٰهيّة هي العصب في مجال المعرفة العلميّة، وهٰذا ما يقود إلى عقيدة التوحيد، حيث لا يمكن للإنسان أن يؤمن بتوفّر هٰذه العناصر الأربعة بهٰذه الدقّة اللامتناهية ما لم يؤمن أنّ هناك إلٰهًا واحدًا وراء ضبط هٰذه العناصر، وضبط القوانين الّتي وراءها، وهٰذا ما ترشد إليه الآية القرآنيّة: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا ۚ فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾؛ لذٰلك قال بعض العلماء: لقد تبنّى الإنسان العلم عندما توقّع أنّ الطبيعة تتّبع قوانين، وقد حدث ذٰلك عندما آمن بالإلٰه الواحد واضع القوانين، هٰذا كلّه على المستوى المعرفيّ والرؤية الكونيّة.
المستوى الأيديولوجيّ: إنّ الفارق بين الحضارة الدينيّة والحضارة المادّيّة يكمن في نظريّة الخلافة، إذ إنّ الحضارة المادّيّة تركز على أصالة الإنسان، وأنّ الإنسان هو قوام هٰذا الكون وهو ركنه الركين، وهو ركيزته الأساسيّة؛ ولذٰلك فالإنسان هو المشرّع وهو المنفّذ وهو المستثمر وهو المستهلك، وهو الّذي يشكل مبدأ المسيرة ومنتهاها، بينما الحضارة الدينيّة ترتكز على نظريّة الخلافة، أي أنّ الإنسان خليفةٌ في هٰذا الكون ووكيلٌ ونائبٌ وليس أصيلًا. قال الله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾.
والخلافة ترتكز على ثلاث دعائم، الأولى: أنّ النظام الاقتصاديّ الّذي هو عصب الحضارة والنظام التربويّ والإداريّ يستند إلى المستخلف لا إلى فكر الخليفة، فإنّ الإنسان مهما بلغ من قوّة العقل ووفور الفطنة، فإنّ عقله محدودٌ لا يستطيع أن يستوعب تمام المصالح والمفاسد الّتي لا يحدّها زمانٌ ولا مكانٌ ولا مجتمعٌ، بحيث يضع أنظمةً وافيةً بتمام المصالح والمفاسد جامعةً للشرائط فاقدةً للموانع، بينما من خلق الوجود هو الأعرف بالمصالح التامّة الجامعة للشرائط، قال تبارك وتعالى: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ۗ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ۚ سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾، فالمدار في الحضارة الدينيّة على نظام المستخلف لا على النظام البشريّ المخترع من قبل الخليفة.
والدعامة الثانية أنّ الحضارة الدينيّة تقوم على العلاقات الأخويّة، فليست العلاقة بين أبناء المجتمع الواحد وأفراد الحضارة الواحدة علاقةً مادّيّةً، ليست علاقة مستثمرٍ ومستهلكٍ، أو علاقة منتجٍ ومستوردٍ، بل هي علاقةٌ أخويّةٌ قائمةٌ على التعاون والإيثار والتضحية والبذل، وإن لم يكن نصيبٌ مادّيٌّ في المقابل. قال تبارك وتعالى: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾، وقال تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾، وقال تبارك وتعالى: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾.
والعنصر الثالث أن الكون يمرّ بعوالم، عالم التقرير وعالم الوجود المادّيّ وعالم الآخرة، فلا بدّ أن ترتكز الحضارة على الربط بين هٰذه العوالم لا على التقوقع والانحصار في عالم المادّة العالم القصير الّذي يطويه الإنسان ثمّ يرتحل إلى العوالم الأخرى، فمن دعائم الحضارة أن تكون تعاليمها وقوانينها وعمرانها ومواردها الاقتصاديّة مبنيّةً على الربط بين هٰذه العوالم المختلفة. قال تبارك وتعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾.
المستوى السلوكيّ: يعتمد الدين على أركانٍ ثلاثةٍ: عقيدةٍ وشريعةٍ وقيمٍ، وحديثنا هنا عن المنظومة القيميّة الّتي تنبع من العقيدة الإلٰهيّة. فإنّ القيم الّتي يؤكّد عليها الدين منحدرةٌ عن صميم الفطرة الإنسانيّة، ممّا يؤكّد انسجام الدين مع البنية الفطريّة والشخصيّة الطبيعيّة للإنسان، ولو عزل الإنسان عن هٰذه القيم الدينيّة لأصبح متوحّشًا خطيرًا، لا يفكّر إلّا في إشباع نهمه المادّيّ، ولا يكون عنصرًا فاعلًا في نشر المحبّة والأمن والسلم الاجتماعيّ، فلدينا عدّة علماء أكّدوا على أنّ المفاهيم الأخلاقيّة الّتي نادى بها الدين هي أمورٌ فطريّةٌ كامنةٌ في شخصيّة الإنسان، فهٰذا جيمس واتسون ذكر في كتابه (DNA) أنّ المفاهيم الأخلاقيّة مطبوعةُ في جينات الإنسان منذ نشأته، وكذا روبرت ونستون رئيس الاتّحاد البريطانيّ لتقدّم العلوم، إذ قال في كتابه (الفطرة البشريّة):
إنّ الحسّ الدينيّ جزءٌ من بنيتنا النفسيّة، وهو مسجّلٌ في جيناتنا، ويتراوح قوّةً وضعفًا من إنسانٍ إلى آخر.
وبول بلوم أستاذ علم النفس بجامعة بيل بالولايات المتّحدة يقول: إنّنا كائناتٌ ثنائيّةٌ من جسدٍ وروحٍ، طُبع في جيناتنا الإيمان بحياةٍ أخرى تحيا فيها الروح بعد مغادرة الجسد الثاني.
لا شكّ أنّ هٰذا الإيمان هو أصل الفطرة الدينيّة. وكذٰلك دين هامر رئيس وحدة أبحاث الجينات بالمعهد القوميّ للسرطان بالولايات المتّحدة يرى في كتابه جين الألوهيّة أنّ الإنسان يرث مجموعةً من الجينات الّتي تجعله مستعدًّا لتقبّل مفاهيم الألوهيّة. ومن أجل تأكيد هٰذه النقطة وهي التواؤم بين القيم الدينيّة والشخصيّة الفطريّة للإنسان. يقول كولنجز أستاذ علم النفس والطبّ وعلوم الوراثة بجامعة واشنطن في نظريّة المزاجات والأخلاق الوراثيّة: إنّ هناك أخلاقًا فطريّةً هي قوام شخصيّة الإنسان.
الأوّل منها مصداقيّة الذات، ويعني وضوح الأهداف وثقة الإنسان بنفسه أنّه قادرٌ على تحقيق هٰذه الأهداف، وهٰذا ما يؤكّده القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾، ويقول تبارك وتعالى: ﴿بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾، كذٰلك قوله تعالى: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى﴾.
والثاني: التعاون، ويعني استعداد الإنسان لمساعدة الآخرين وتحملهم، والعزوف عن الانتقام قال تبارك وتعالى: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ وقال تبارك وتعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾.
والثالث: تجاوز الذات أو السمو النفسيّ، الّذي يعني إنكار الذات والمسير نحو الإبداع والعطاء والبعد عن براثن المادّة، وهٰذا ما يؤكّده القرآن الكريم في قوله: ﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾.
إنّ هٰذا التوافق بين بنية الدين وبين الفطرة البشريّة يمتدّ إلى بايولوجيا الجسم الإنسانيّ، وينعكس بشكلٍ إيجابيٍّ على صحّته الجسديّة والعقليّة والنفسيّة، يقول احد علماء الفيزياء بمركز الطبّ الخلويّ بنيوكاسل بإنجلترا: إنّ الآثار الإيجابيّة للإيمان الدينيّ على الصحّة الجسديّة والعقليّة والنفسيّة من أهمّ أسرار علم النفس والطبّ بصفةٍ عامّةٍ.
كلّ ذٰلك يؤكّد لنا أنّ هناك أبعادًا ثلاثةً تكمن في شخصيّة الإنسان، وهي الأنانيّة الناشئة عن حبّ النفس، والإيثار هو البعد الناشئ عن الروح الاجتماعيّة الّتي يملكها كلّ إنسانٍ، والضمير وهو عبارةٌ عن القوّة الرقابيّة الّتي أودعها الله في الإنسان لتحكم مسيرته، قال تبارك وتعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾. إنّ التوازن بين هٰذه الأبعاد الثلاثة في شخصيّة الإنسان ممّا تتكفّله القيم الدينيّة الّتي توفّر للإنسان شخصيّةً معطاءةً وعادلةً متوازنةً، وشخصيّةً حضاريّةً تجمع بين العطاء المادّيّ والعلاقات الأخويّة والربط بين العوالم الوجوديّة المختلفة.
س 7: يتعرّض المجتمع الإسلاميّ بين فترةٍ وأخرى إلى موجاتٍ وتيّاراتٍ فكريّةٍ تتعارض مع عقيدته ودينه كالشيوعيّة والعلمانيّة بصورها المختلفة، وازداد الحديث في الآونة الأخيرة عن وجود ظاهرةٍ سلبيّةٍ خطيرةٍ في الجانب العقديّ والفكريّ انتشرت في أوساط بعض المثقّفين ممّن تستهويهم الموضات، وهي ظاهرة الإلحاد واللادينيّة، ما هي معلوماتكم حول حجم هٰذه الظاهرة؟ وما هي الآليّات الكفيلة بمعالجتها؟
إنّ ظاهرة الإلحاد الّتي بدأت تنتشر بسرعةٍ واضحةٍ في المجتمعات الإسلاميّة تستند إلى عدّة عوامل بعضها فكريّةٌ وبعضها إعلاميّةٌ وبعضها نفسيّةٌ وبعضها اجتماعيّةٌ.
الأولى: العوامل الفكريّة: إنّ أغلب من يتأثّر بالأفكار الإلحاديّة لا يمتلك ثقافةً واضحةً بالأسس والركائز الفلسفيّة، كمبدإ العلّيّة والسنخيّة والحتميّة، وعدم التفريق بين العلل المعدّة والعلّة بالأصالة، وعدم الإحاطة باستحالة التسلسل، وإنّ الاتّفاقيّ لا يكون أكثريًّا ولا دائميًّا، والخلط بين ما بالعرض وما بالذات، وعدم قراءة البحوث الّتي كتبها أعلام الفكر في المذهب الإماميّ حول فلسفة الشرّ والخير في العالم، أو الانفتاح على قراءة الفلسفة الغربيّة دون المقارنة بالفلسفة الإسلاميّة، والانبهار بالأسماء اللامعة في الثقافة العلمانيّة، وعدم القدرة على التمييز ووضع النقاط على الحروف.
الثانية: إنّ الإعلام المروّج للإلحاد واللادينيّة واللاأدريّة إعلامٌ مدعومٌ بالمال والوسائل المختلفة، فهناك قنواتٌ ومواقع وبحوثٌ وأساتذة جامعاتٍ وأقلامٌ تستميت في الدفاع عن الفكر الإلحاديّ، بل حتّى على مستوى بعض الجامعات في أمريكا وأوربّا يفضّل الأستاذ الملحد على الأستاذ المؤمن إذا تقدّم كلاهما إلى الجامعة وكانا متساويين في الكفاءة. وفي المقابل نرى ضعف الإعلام الدينيّ، حيث لا نجد اهتمامًا في مجال الإعلام الدينيّ بنقد الفلسفة المادّيّة أو مواجهة الثقافة الإلحاديّة بالمنطق العلميّ الرصين، وقلّة المتصدّين في هٰذا الحقل وعدم قدرة كثيرٍ ممّن يتصدّى إلى دحض الشبهات والاجابة المقنعة عن الاستفهامات المتعلّقة بالعقيدة الدينيّة.
الثالثة: الأسباب الاجتماعيّة ومنها تعثّر مسيرة بعض الأحزاب الدينيّة، وسوء سمعتها في مجال الحكم والإدارة، وانشغال المجتمعات الدينيّة بالخلافات الداخليّة الّتي تصل إلى مستوى العداوة والكيد من البعض تجاه بعضهم الآخر، والتركيز على القضايا الثانويّة دون الأولويّة في مجال الإعلام، والاهتمام بالظواهر على حساب المعتقدات، وعدم تبنّي الحوزة العلميّة تطوير علم الكلام بما ينسجم مع دحض الشبهات المستشرية في مادّة الإلحاد واللاأدريّة، وبيان قوّة الدين وأهّمّيّته في حياة الإنسان.
والقسم الرابع: وهو الأسباب النفسيّة ومنها الرغبة في التحرّر من القيود والقيم الأخلاقية، ومنها كما هو ملاحظٌ في الغرب عدم القدرة على تطبيق الأحكام الدينيّة بشكلٍ متكاملٍ في ضوء الحضارة المادّيّة الّتي تركز على لذّة الإنسان ومتعته وإشباع شهواته وغرائزه بمختلف الوسائل الإعلاميّة المتاحة، ومنها المرور بأزماتٍ وآلامٍ نفسيّةٍ لا يجد الإنسان لها حلولًا في الثقافة الدينيّة بحسب ما يتلقّاه من وسائل الإعلام ووسائل التواصل المختلفة، والنفور من بعض تصرّفات المحسوبين على الدين والتديّن في الأموال أو في العلاقات الاجتماعيّة المختلفة، فهٰذه العوامل بمجموعها مهّدت وعبّدت الطريق أمام انتشار ظاهرة الإلحاد بأوضح صورها.
يمكنكم الإطلاع على العدد بشكل كامل هنا
شاهد المطلب في رابط التالي:
https://aldaleel-inst.com/article/37