حديث الغدير - مقاربة ودراسة لطرقه وسنده ودلالاته عند علماء أهل السنة
الدكتور يحيى عبد الحسن الدوخي
تمهيد: أهمية حديث الغدير إنّ أهمية حديث الغدير نابعة من اهتمام المولى جلّ وعلا به، وهذا ما نفهمه من استنطاقنا لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ).
وهذه الآية الكريمة شهد كثير من المفسرين بنزولها في علي عليه السلام فهو مصداقها الجلي والواضح. فقد روى ابن أبي حاتم في تفسيره، بسنده عن أبي سعيد الخدري، قال: «نزلت هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ). في علي بن أبي طالب». وقد التزم ابن أبي حاتم في مقدّمة تفسيره بإخراج أصح الأخبار إسناداً، حيث قال: «فتحريت إخراج ذلك بأصح الأخبار إسناداً وأثبتها متناً».
وابن تيمية قد أقرّ واعترف بأنّ تفسير ابن أبي حاتم متضمن للمنقولات التي يعتمد عليها، قال: «باتفاق أهل النقل من أئمة أهل التفسير، الذين ينقلونها بالأسانيد المعروفة كتفسير ابن جريج، وسعيد بن أبي عروبة،.. وابن أبي حاتم، وغيرهم من العلماء الأكابر الذين لهم في الإسلام لسان صدق، وتفاسيرهم متضمّنة للمنقولات التي يعتمد عليها في التفسير».
وكذلك نجد اهتمام رسول الله صلي الله عليه و آله وكبار الصحابة والعلماء به، بحيث نجد أنّ الرواة لهذا الحديث من الصحابة بلغ أكثر من مائة وعشرين صحابياً وصحابية، ولعلنا لا نجد في السنة النبوية الشريفة كلها حديثاً آخر روته هذه الكثرة من الصحابة، أضف إلى ذلك أنّ النبي صلي الله عليه و آله لم يقل هذا الحديث في بيته، أو في مسجده، أو في قلة من الصحابة، بل أعلن هذه الصرخة المدوية في جمع من المسلمين لم تسعهم المدينة كلها، فكأنّ صحراء المدينة مملوءة بهذا العدد الضخم، فكان هذا الجمع أكبر تظاهرة إسلامية شهدها التاريخ على عهد النبوة.
ولكن مع كثرة هذه الرواة والطرق لهذا الحديث جاء من يشكك به، بل ويضعّفه وهذا ما نجده في كلمات ابن حزم الظاهري وابن تيمية، لذا ستكون مقاربتنا ودراستنا لهذا الحديث من خلال النقاط التالية:
1- نقل كلام ابن حزم وابن تيمية في تضعيف حديث الغدير.
2- السبب المعقول لهذا الحديث.
3- رواة حديث الغدير.
4- علماء السنة يصرحون بكثرة طرق حديث الغدير.
5- طرق الحديث وتواتره.
6- دلالات حديث الغدير على إمامة علي عليه السلام المطلقة.
7- دفع شبهة الدهلوي والتفتازاني اللذين قالا بأنّ المولى لا تأتي بمعنى الأَوْلى.
8- قرائن وشواهد على ولاية علي عليه السلام .
9- خلاصة ونتيجة البحث. ابن حزم وابن تيمية يضعّفون حديث الغدير قال ابن حزم: «وأما من كنت مولاه فعليٌّ مولاه فلا يصح من طريق الثقات أصلاً».
وقال ابن تيمية: «وأما من كنت مولاه فعليٌّ مولاه، فليس هو في الصحاح، لكن هو مما رواه أهل العلم وتنازع الناس في صحته، وأما قوله: اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله، فهو كذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث».
هذا ما تفوه به بعض من يدعي العلم، فابن حزم ادعى أنّ هذا الحديث لا يصح من طريق الثقات. وأمّا ابن تيمية فقال: ليس هو في الصحاح وتنازع الناس في صحته وقولهم وال من والاه.. كذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث. إذن لنرى أهل المعرفة بالحديث ماذا يقولون.
وقبل ذلك نذكر سبب هذا الحديث والذي يتناسب وطبيعة الأحداث الجارية آنذاك، ونوثق عدد الحضور لهذه الواقعة العظيمة. السبب المعقول لهذا الحديث هناك من ذكر سبباً لورود هذا الحديث، وهو ما روي عن بريدة أنه قال: «مررت مع عليٍّ إلى اليمن فرأيت منه جفوة، فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت علياً فتنقصته... فقال: ألست أولى بالمؤمنين...».
ولكن هذا السبب لا يمكن لعاقل أن يصدق به؛ فهل يعقل أن رسول الله صلي الله عليه و آله يقيم هذه الاحتفالية العظيمة التي قلَّ نظيرها في ذلك الوقت ليقول لهم أنّ بريدة قد آذى علياً، عند ذاك أراد الرسول أن يدفع عن عليٍّ هذا الحيف الذي وقع عليه فجاء هذا الحديث بهذه الصيغة. أليس من حق هذا العدد الهائل والذي يقدّر بمائة وعشرين ألفاً ـ كما وصفه سبط ابن الجوزي ـ أن يعترضوا على رسول الله صلي الله عليه و آله على وقوفهم لهذا السبب؛ لأنه يمكن أن يقولوا له: لماذا هذه المقدمات الصعبة فبالإمكان أن تقول لنا ذلك في المدينة.
أليس من السذاجة وبساطة العقول أن يطرح بعض المؤرخين هذا السبب؟! إنّ السبب الرئيس والمهم والذي يتلاءم ويتواءم مع طرح هذه المسألة المهمة في الإسلام ـ بحيث نجد رسول الله صلي الله عليه و آله تحمّل هذا العناء وجمع عدداً لا يستهان به من المسلمين في صحراء قاحلة ـ هو تنفيذ لأمر المولى جلَّ وعلا المتمثل بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ. فمن تأمل وتدّبر في قوله تعالى: «فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) ثم أمعن النظر في قوله صلي الله عليه و آله : «من كنت مولاه فعليٌّ مولاه اللهم وال من والاه وعادِ من عاداه» يجزم بأنّ هذا هو السبب الأساسي في هذه الواقعة ألا وهو تنصيب عليٍّ للولاية والإمامة.
قال الفخر الرازي ـ وتقدم قول أبي حاتم الرازي في تفسيره ـ بعد طرحه للآراء حول سبب نزول هذه الآية: «العاشر: نزلت الآية في فضل علي بن أبي طالب عليه السلام، ولما نزلت هذه الآية أخذ بيده وقال: من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، فلقيه عمر رضي الله عنه، فقال: هنيئاً لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي، ومولى كل مؤمن ومؤمنة، وهو قول ابن عباس والبراء بن عازب ومحمد بن علي».
وكلّ ما ذكر من الأسباب الأخرى لا يمكن أن تستقيم إلاّ مع هذا الرأي؛ لأننا لو نظرنا في سياق هذه الآية: «وَإن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ» فهو ينبأ عن أمر خطير وفي غاية الأهمية، فهو مساوق لانعدام الرسالة برمتها.. ومن المعلوم أنّ رسول الله صلي الله عليه و آله كان على دراية كاملة أنّ هذه الحَجَّة هي آخر أيام حياته، ولابد أن يضع الأمة على بيّنة من أمرها، فهو يعلم ما سيقع في أواخر حياته، لذا جاء هذا الأمر الإلهي الذي لا مناص من التبليغ به.
قال الثعلبي في أسباب نزول هذه الآية: «وقال أبو جعفر محمد بن علي: معناه بلِّغ ما أنزل إليك في فضل علي بن أبي طالب، فلما نزلت الآية أخذ صلي الله عليه و آله يد علي، فقال: منكنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد منعاداه».
ثم ذكر عن البراء، قال: «لما نزلنا مع رسول الله صلي الله عليه و آله في حجة الوداع كنا بغدير خم، فنادى: إن الصلاة جامعة وكسح رسول الله عليه الصلاة والسلام تحت شجرتين وأخذ بيد علي، فقال: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ألست أولى بكل مؤمن من نفسه؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: هذا مولى من أنا مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، قال: فلقيه عمر، فقال: هنيئاً لك يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كلِّ مؤمن ومؤمنة».
وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: «كنا نقرأ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ، أن علياً مولى المؤمنين وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس». وقال العيني في عمدة القاري: «ذكر الواحدي... عن أبي سعيد قال: نزلت هذه الآية: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ، يوم غدير خم في علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال مقاتل قوله». إذن هناك أمر بتتويج علي عليه السلام لمنصب خطير ومهم ألا وهو منصب الولاية. عدد الحضور لواقعة (غدير خم) ولا بأس أن نذكر عدد الحضور لهذا الحدث التأريخي والمفصلي في تأريخ اُمتنا الإسلامية؛ لكي ندفع ما توهم من ذكر أسباب عقيمة يرفضها المنطق وواقع الأحداث. قال أبو يعلى في مسنده عن جابر: «نظرت بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي مد بصري والناس مشاة و ركبان».
وقال ابن سعد في الطبقات: «فأجمع صلى الله عليه وسلم الخروج إلى الحج وأذن الناس بذلك فقدم المدينة بشر كثير يأتمون برسول الله صلي الله عليه و آله في حجته». وهذا الكلام مأخوذ من حديث لجابر فيما أخرجه مسلم في صحيحه: «إن رسول الله صلي الله عليه و آله مكث تسع سنين ثم أذن في الناس في العاشرة أنّ رسول الله حاج فقدم المدينة بشر كثير... حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى مد بصري بين يديه من راكب وماش وعن يمينه مثل ذلك».
إذن كان العدد في تلك التظاهرة لا يعد ولا يحصى، وهذه الحقيقة أكدها سبط بن الجوزي في تذكرة الخواص في كلامه على حديث الغدير، قال: «اتفق علماء السير على أنّ قصة الغدير كانت بعد رجوع النبي صلي الله عليه و آله من حجة الوداع في الثامن عشر من ذي الحجة، جمع الصحابة وكانوا مائة وعشرين ألفاً، وقال: من كنت مولاه فعلي مولاه. الحديث، نص صلي الله عليه و آله على ذلك بصريح العبارة دون التلويح والإشارة». رواة حديث الغدير إنّ رواة حديث الغدير بلغ عدداً لا يستهان به، وأكتفي بنقل مشاهير هؤلاء العلماء عبر القرون المختلفة: رواه أحمد بن حنبل، وابن ماجة، والترمذي، والنسائي، وأبو يعلى الموصلي، والطبري، وابن حبان، والدار قطني، والحاكم النيسابوري، وابن عبد البر، والخطيب البغدادي وأبو نعيم الأصبهاني، والبيهقي، والبغوي، وبن عساكر، والضياء المقدسي صاحب المختارة، والذهبي، وابن حجر العسقلاني، والسيوطي، وابن حجر المكي وغيرهم من الحفاظ الكبار لم نذكرهم لأننا نروم الاختصار. علماء السنة يصرحون بكثرة طرق حديث الغدير وأما طرق حديث الغدير فلا عدّ لها ولا حصر، بحيث نجد تصريح علماء أهل السنة بهذا الكم الهائل من الطرق التي قد دهشت بعضهم وأبـهرتـه لكثرتها، وننقل في هذا الصدد عبارات بعض منهم:
1ـ الذهبي، محمد بن أحمد بن عثمان(ت 748 هـ ): «رأيت مجلداً من طرق الحديث لابن جرير، فاندهشت له ولكثرة تلك الطرق». وقال أيضاً عند ترجمته للطبري: «قلت: جمع طرق حديث غدير خم في أربعة أجزاء، رأيت شطره، فبهرني سعة رواياته، وجزمت بوقوع ذلك». وقال أيضاً: «واعتنى بجمع طرقه أبو العباس ابن عقدة، فأخرجه من حديث سبعين صحابياً أو أكثر». وقال أيضاً: « .. وأما حديث (من كنت مولاه) فله طرق جيّدة، وقد أفردت ذلك أيضاً».
2ـ ابن كثير الدمشقي(ت774هـ): قال عند ترجمته للطبري: «أبو جعفر بن جرير الطبري... وقد رأيت له كتاباً جمع فيه أحاديث غدير خم في مجلدين ضخمين».
3ـ ابن حجر العسقلاني(ت 852 هـ): قال: «وأما حديث (من كنت مولاه فعلي مولاه) فقد أخرجه الترمذي والنسائي، وهو كثير الطرق جداً، وقداستوعبها ابن عقدة في كتاب مفرد، وكثير من أسانيدها صحاح وحسان». لذا نجد أنّ الشيخ الأميني في موسوعته الغدير ذكر بعض تلك الطرق، قائلاً: «وقد رواه أحمد بن حنبل من أربعين طريقاً، وابن جرير الطبري من نيّف وسبعين طريقاً، وابن عقدة من مائة وخمس طرق، وأبو سعيد السجستاني من مائة وعشرين طريقاً، وأبوبكر الجُعابي من مائة وخمس وعشرين طريقاً، وفي تعليق هداية العقول، عن الأمير محمد اليمني أحد شعراء الغدير في القرن الثاني عشر: أنّ له مائة وخمسين طريقاً».
وقال في موضع آخر: «وقال العلوي الهدّار في القول الفصل، كان الحافظ أبو العلاء العطّار الهمداني يقول: أروي هذا الحديث بمائتين وخمسين طريقاً». طرق حديث الغدير :
1 ـ عن علي عليه السلام ( صححه ابن حجر العسقلاني) أخرجه ابن حجر العسقلاني في المطالب العالية: «وقال إسحاق أخبرنا أبو عامر العقدي، عن كثير بن زيد، عن محمد بن عمر بن علي، عن أبيه، عن علي (رضي الله عنه) قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم حضر الشجرة بخم، ثم خرج آخذاً بيد علي رضي الله عنه، قال: ألستم تشهدون أن الله تبارك وتعالى ربكم؟ قالوا: بلى، قال (صلى الله عليه وسلم): ألستم تشهدون أن الله ورسوله أولى بكم من أنفسكم وأن الله تعالى ورسوله أولياؤكم؟ فقالوا: بلى، قال: فمن كان الله ورسوله مولاه فإنّ هذا مولاه، وقد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا: كتاب الله تعالى سببه بيده، وسببه بأيديكم، وأهل بيتي» ثم قال: «هذا إسناد صحيح».
2 ـ عن أبي الطفيل ( صححه الهيثمي والألباني) أخرجه أحمد بن حنبل بسنده عن أبي الطفيل: «قال: جمع علي رضي الله تعالى عنه الناس في الرحبة، ثم قال لهم: أنشد الله كل امرئ مسلم سمع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول يوم غدير خم ما سمع لمّا قام، فقام ثلاثون من الناس، وقال أبو نعيم: فقام ناس كثير، فشهدوا: حين أخذ بيده، فقال للناس: أتعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: نعم يا رسول الله، قال: من كنت مولاه فهذا مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، قال: فخرجت وكأن في نفسي شيئاً، فلقيت زيد بن أرقم، فقلت له: إني سمعت علياً رضي الله تعالى عنه يقول: كذا وكذا، قال: فما تنكر، قد سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول ذلك له». قال الهيثمي في مجمع الزوائد: «رواه البزار وأحمد ورجاله رجال الصحيح، غير فطر بن خليفة وهو ثقة». وقال الألباني في سلسلته الصحيحة: «أخرجه أحمد وابن حبان في صحيحه، وابن أبي عاصم والطبراني والضياء في المختارة وإسناده صحيح على شرط البخاري». وكذلك رواه الترمذي في سننه بسنده عن النبي صلي الله عليه و آله، قال: «من كنت مولاه فعليٌّ مولاه» قال أبو عيسى: «هذا حديث حسن صحيح». وصححه الألباني، قال: «أخرجه الترمذي، قال: حديث حسن صحيح، قلت: وإسناده صحيح على شرط الشيخين».
3 ـ عن سعد بن أبي وقاص (صححه الألباني) رواه ابن ماجة في سننه، عن سعد بن أبي وقاص، قال: «قدم معاوية في بعض حجّاته، فدخل عليه سعد، فذكروا علياً، فنال منه، فغضب سعد وقال: تقول هذا الرجل، سمعت رسول الله صلي الله عليه و آله يقول: من كنت مولاه فعلي مولاه». قال الألباني: «صحيح».
4 ـ عن البراء بن عازب (صححه الألباني) رواه ابن ماجة في سننه، عن البراء بن عازب، قال: «أقبلنا مع رسول الله صلي الله عليه و آله في حجته التي حج، فنزل في بعض الطريق، فأمر الصلاة جامعة، فأخذ بيد علي رضي الله عنه، فقال: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى، قال: ألست أولى بكل مؤمن من نفسه؟ قالوا: بلى، قال: فهذا وليّ من أنا مولاه، اللهم وال من والاه، اللهم عاد من عاداه». قال الألباني: «صحيح».
5 ـ عن زيد بن أرقم ( صححه الحاكم وتابعه الذهبي) روى الحاكم في المستدرك على الصحيحين عن زيد بن أرقم، قال: «خرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى انتهينا إلى غدير خم، فأمر بروح، فكسح في يوم، ما أتى علينا يوم كان أشد حرّاً منه، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: يا أيها الناس، إنه لم يبعث نبي قط إلا ما عاش نصف ما عاش الذي كان قبله، وإني أوشك أن أدعى فأجيب، وإني تارك فيكم ما لن تضلوا بعده كتاب الله عزَّوجلّ، ثم قام فأخذ بيد علي رضي الله عنه، فقال: يا أيها الناس، من أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: بلى، قال: من كنت مولاه فعلي مولاه». قال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه». وتابعه الذهبي في التلخيص، بقوله: «صحيح».
6 ـ عن رياح بن الحرث (صححه الهيثمي والألباني) رواه أحمد في مسنده بسند عن رياح بن الحرث، قال: «جاء رهط إلى عليٍّ بالرحبة، فقالوا: السلام عليك يا مولانا، قال: كيف أكون مولاكم وأنتم قوم عرب؟ قالوا: سمعنا رسول الله صلي الله عليه و آله يوم غدير خم يقول: (من كنت مولاه فإنّ هذا مولاه) قال رياح: فلما مضوا تبعتهم، فسألت: من هؤلاء؟ قالوا: نفر من الأنصار فيهم أبو أيوب الأنصاري». قال الهيثمي في مجمع الزوائد: «ورجال أحمد ثقات»، وقال الألباني: «وهذا إسناد جيد، رجاله ثقات».
7 ـ عن سعيد ابن وهب وزيد بن يثيع (صححه الهيثمي وأحمدمحمدشاكر) روى البزار في مسنده عن سعيد بن وهب، و زيد بن يثيع، قالوا: «سمعنا علياً يقول: نشدت رجلاً سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يوم غدير خم لمّا قام، فقام إليه ثلاثة عشر رجلاً فشهدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فأخذ بيد علي، فقال: من كنت مولاه فهذا مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وأحب من أحبه وأبغض من أبغضه وانصر من نصره واخذل من خذله». قال الهيثمي في مجمع الزوائد: «رواه البزار ورجاله رجال الصحيح غير فطر بن خليفة، وهو ثقة». وأخرجه أحمد بنفس الألفاظ، وحكم عليه الشيخ أحمد محمد شاكر: «إسناده صحيح».
8 ـ عن أبي هريرة روى الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد، بسنده، قال: «أنبأنا عبد الله بن علي بن محمد بن بشران، أنبأنا علي بن عمر الحافظ، حدثنا أبو نصر حبشون بن موسى بن أيوب الخلال، حدثنا علي بن سعيد الرملي، حدثنا ضمرة بن ربيعة القرشي، عن ابن شوذب، عن مطر الوراق، عن شهر بن حوشب، عن أبي هريرة، قال: من صام يوم ثمان عشرة من ذي الحجة كتب له صيام ستين شهراً، وهو يوم غدير خم، لما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيد علي بن أبي طالب، فقال: ألست ولي المؤمنين، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، فقال عمر بن الخطاب: بخ بخ لك يا بن أبي طالب، أصبحت مولاي ومولى كل مسلم، فأنزل الله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ومن صام يوم سبعة وعشرين من رجب كتب له صيام ستين شهراً، وهو أول يوم نزل جبرئيل على محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة». ترجمة سند الرواية وسند هذه الرواية صحيح ورواتها ثقات نوجز ترجمتهم بما يلي:
1ـ ابن بشران من شيوخ الخطيب البغدادي، وقال عنه: «كتبت عنه وكان سماعه صحيحاً». وهذه قرينة على وثاقته عند الخطيب.
2ـ علي بن عمر الحافظ، فهو الدار قطني صاحب السنن المشهور قال عنه الخطيب: «كان الدار قطني فريد عصره، وقريع دهره، ونسيج وحده، وإمام وقته، انتهى إليه علم الأثر والمعرفة بعلل الحديث وأسماء الرجال، مع الصدق والثقة».
3ـ حبشون الخلال، وثقه الخطيب، قال: «كان ثقة يسكن باب البصرة».
4ـ علي بن سعيد الرملي، فهو ابن أبي حملة، وثقه الذهبي، قال: «ما علمت به بأساً، ولا رأيت أحداً الآن تكلّم فيه، وهو صالح الأمر، ولم يخرج له أحد من أصحاب الكتب الستة مع ثقته».
5ـ ضمرة بن ربيعة، الفلسطيني أبو عبد الله الرملي. روى له البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة. وثقه أحمد بن حنبل، قال: «من الثقات المأمونين، رجل صالح، صالح الحديث، لم يكن بالشام رجل يشبهه».
6 ـ عبد الله بن شوذب، وثقه ابن حجر العسقلاني، قال: «سكن البصرة والشام، صدوق عابد».
7 ـ مطر الوراق، وثقه الذهبي، قال: «الإمام الزاهد الصادق، أبو رجاء بن طهمان الخراساني، نزيل البصرة، مولى علباء بن أحمر اليشكري، كان من العلماء العاملين، وكان يكتب المصاحف، ويتقن ذلك». وقال أيضاً: «فمطر من رجال مسلم، حسن الحديث».
8 ـ شهر بن حوشب، روى له البخاري في الأدب المفرد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة. قال العجلي في معرفة الثقات: «شهر بن حوشب شامي، تابعي، ثقة». وقال الذهبي: «قال حرب الكرماني: قلت لأحمد بن حنبل: شهر بن حوشب، فوثّقه، وقال ما أحسن حديثه، وقال: سمعت أبا عبد الله يقول: شهر ليس به بأس. قال الترمذي: قال محمد، يعني البخاري: شهر حسن الحديث، وقوي أمره».
إذن فالحديث صحيح ومعتبر، وفيه تصريح واضح، بعد أن تحدث به رسول الله صلي الله عليه و آله نزل قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا. فبولاية علي عليه السلام أكمل الدين بنص هذه الآية الكريمة. تواتر حديث الغدير وصحته أما من ذكر تواتر هذا الحديث، فإليك جملة من الأعلام الذين قالوا بتواتره:
1 ـ الذهبي المشهور بتشدده وتعصبه، قال: «فالحديث في أعلى درجات الصحة وهو من الأحاديث المتواترة».
2 ـ ابن حجر المكي قال في الصواعق المحرقة: «إنه حديث صحيح لا مرية فيه، وقد أخـرجـه جـمـاعـة كالـتـرمـذي و النسائي وأحمد، فطرقه كثيرة جـداً ومـن ثـمّ رواه ستة عـشر صـحابياً... ولا التفات لمن قدح في صحته».
3 ـ ابن كثير الدمشقي قال: «قال شيخنا الحافظ أبو عبدالله الذهبي: الحديث متواتر، أتيقن أنّ رسول الله قاله».
4 ـ زين الدين المناوي الشافعي نقلاً عن السيرفي قال: «حديث متواتر».
5 ـ أبو عبد الله الزرقاني المالكي قال: «وهو متواتر رواه ستة عشر صحابياً، وفي رواية لأحمد أنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثون صحابياً وشهدوا به لعلي لما نوزع أيام خلافته، فلا التفات إلى من قدح في صحته».
6ـ الفقيه ضياء الدين المقبلي قال: «إن لم يكن معلوماً فما في الدين معلوم». وهو بذلك يشير إلى أنه في أعلى مراتب الصحة ووضوحه كالشمس في رابعة النهار. إلى غير ذلك من الأقوال التي أشارت إلى تواتره وأنه في أعلى مراتب الصحة. دلالة حديث الغدير على إمامة علي عليه السلام بعد أن أخذ الرسول صلي الله عليه و آله منهم الإقرار، وأشهدهم على أنه أولى بهم من أنفسهم، كما في قوله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ، فالنبي الأكرم صلي الله عليه و آله أشهدهم على أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم في كل مالهم الولاية عليه، فأخذ الإقرار على هذا المعنى، ثم فرّع هذه الولاية بقوله: «من كنت وليه فعلي وليه» أو في بعض الألفاظ «فعلي مولاه» أو «فمن كنت أميره ... فعلي أميره» وبذلك أثبت رسول الله صلي الله عليه و آله لعلي ما ثبت له من الأولوية بالناس أي من أنفسهم، وهم بايعوه على هذا وسلموا له بذلك وهنأوا علياً، كما ورد عن عمر: «بخ بخ يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مسلم»، فأنزل الله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ.
كما تقدم في رواية الخطيب عن أبي هريرة. أما محور الاستدلال فهو في معنى كلمة (مولى) في هذا الحديث الشريف، فذهبت المدرسة الأخرى إلى أن معناه هو (الصاحب أو الناصر) أما مدرسة أهل البيت عليهم السلام فقالوا: إنّ معنى المولى هو (الأولى) وهو الأصح.
دفع شبهة الدهلوي والتفتازاني قال عبد العزيز الدهلوي صاحب كتاب التحفة الاثنا عشريّة: إنّ أول ما في هذا الاستدلال هو: أن أهل العربية قاطبة ينكرون أن يكون (المولى) قد جاء بمعنى (الأولى). وقال التفتازاني: «بأن المراد بالمولى هو الناصر والمحب». اللغة وأهلها لا ينكرون أن يكون المولى بمعنى الأولى أما أهل اللغة الذين أنكرهم الدهلوي بأجمعهم، اعترفوا بعكس ما يدعيه، نذكر منهم على سبيل المثال:
1ـ الزجاج، أبو إسحاق (ت311 هـ).
2ـ الفراء، أبو زكريا، يحيى بن زياد (ت207 هـ).
3 ـ أبو عبيدة، معمر بن المثنى اللغوي (ت210هـ).
4 ـ الأخفش، أبوالحسن سعيد بن مسعدة النحوي(ت215 هـ). ذكر الفخر الرازي في تفسير آية: هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. قال: «والثاني قال الكلبي: يعني أولى بكم، وهو قول الزجاج والفرّاء وأبي عبيدة». وكذلك قال الفخر الرازي أيضاً: «في قوله تعالى: هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ، معناه: هي أولى بكم. وذكر هذا أيضاً الأخفش.. واستشهدوا ببيت لبيد...».
فالكلبي المفسر يعترف بأنّ الزجاج والفراء وأبا عبيدة قالوا بهذا المعنى، هو قد استقى منهم واعتمد عليهم وفسر الآية به طبقاً لما قالوه؛ وكذلك فسّرها الأخفش، وهو من أئمة العربية وشيوخها. وهؤلاء لهم من الخبرة ما لا يضاهيهم غيرهم، فكلماتهم لا بدّ أن نحملها على الصدق. ترجمة الزجاج: قال الذهبي في سيرأعلام النبلاء: «وشيخ العربية أبوإسحاق إبراهيم بن السري الزجاج البغدادي».
وقال الخطيب البغدادي: «إبراهيم بن السرى بن سهل، أبو إسحاق النحوي الزجاج، صاحب كتاب (معاني القرآن)، كان من أهـل الفضـل و الدين، حسن الاعتقاد، جميل المذهب، وله مصنفات حسان في الأدب». ترجمة الفراء : وأما الفراء، فقال الخطيب البغدادي عنه: «وكان ثقة إماماً. ويحكى عن أبي العباس ثعلب أنه قال: لولا الفراء لما كانت العربية؛ لأنه خلصها وضبطها، ولولا الفراء لسقطت العربية؛ لأنها كانت تتنازع ويدعيها كل من أراد ويتكلم الناس فيها على مقادير عقولهم وقرائحهم». ترجمة أبي عبيدة : قال الذهبي: «الإمام العلامة البحر، أبو عبيدة، معمر بن المثنى التيمي، مولاهم البصري، النحوي، صاحب التصانيف.
قال الجاحظ: لم يكن في الأرض خارجيّ ولا جماعي، عالم بجميع العلوم من أبي عبيدة». وذكره ابن المبارك فصحّح رواياته.. وقال يعقوب بن شيبة: سمعت علي بن المديني ذكر أبا عبيدة، فأحسن ذكره، وصحح روايته، وقال: «كان لا يحكي عن العرب إلاّ الشيء الصحيح». ترجمة الأخفش: قال ابن خلكان: «أبو الحسن سعيد بن مسعدة المجاشعي بالولاء النحوي البلخي المعروف بالأخفش الأوسط. أحد نحاة البصرة... من أئمة العربية، وأخذ النحو عن سيبويه وكان أكبر منه، وكان يقول: ما وضع سيبويه في كتابه شيئاً إلاّ وعرضه عليّ، وكان يرى أنه أعلم به مني وأنا اليوم أعلم به منه». وقال اليافعي، في حوادث سنة ( 215 هـ): «وفيها توفي الأخفش الأوسط إمام العربية...».
إذن أئمة العربية وشيوخها لا ينكرون هذا المعنى وأنّ المولى هو الأولى. البخاري في صحيحه يفسر المولى بالأَوْلى: ولـعـلّ الـبـخاري قد استفاد هذا المعنى من أعلام أهل اللغة، فجاء تفسيره لها في صحيحه عند تفسير سورة الحديد، قال: «مولاكم أولى بكم».
قال ابن حجر العسقلاني : «قوله [أي البخاري] مولاكم أولى بكم: قال الفراء في قوله تعالى: مَأْوَاكُمُ النَّار هِيَ مَوْلاكُمْ، يعني أولى بكم، وكذا قال أبو عبيدة، وفي بعض نسخ البخاري هو أولى بكم، وكذا هو في كلام أبي عبيدة». فأكد ابن حجر أنّ البخاري فسرها بالأولى، ولا نحتاج إلى جوابه الذي قال فيه: «يصح على إرادة المكان..»، لأنّ البخاري اتكأ على أقوال اللغويين وهي حجة في هذا المعنى بلا تأويل. المفسرون يحذون حذو أهل اللغة في تفسير المولى بـ (ا لأولى) : لقد أجمع المفسرون على تفسير كلمة المولى بالأولى في تفسير سورة الحديد ، نذكر بعض منهم:
1ـ الكلبي (ت 146 هـ) : قال أبو حيان الأندلسي: وقال الكلبي: «أولى بنا من أنفسنا في الموت والحياة. وقيل: مالكنا وسيدنا، فلهذا يتصرف كيف شاء. فيجب الرضا بما يصدر من جهته، وقال: ذلك بأنّ الله مولى الذين آمنوا، وأنّ الكافرين لا مولى لهم، فهو مولانا الذي يتولانا ونتولاه».
2ـ الطبري (ت310 هـ) قال: وقوله: «هي مولاكم»، يقول: النار أولى بكم.
3ـ أبو الليث السمرقندي (ت 383 هـ) قال: «هي مولاكم» يعني هي أولى بكم بما أسلفتم من الذنوب.
4 ـ ابن زمين (ت 399 هـ) قال: «وقيل: «هي مولاكم» هي أولى بكم لما أسلفتم، وهو الذي أراد يحيى أيضاً.
5 ـ السمعاني (ت 489 هـ) قال: وقوله «هي مولاكم» أي: النار أولى بكم.
6ـ ابن الجوزي (ت 597 هـ ) قال: قوله عزَّوجلّ: «هي مولاكم» قال أبو عبيدة، أي: أولى بكم.
7ـ ابن كثير الدمشقي (ت 774 هـ) قال: «وقوله تعالى: هِيَ مَوْلاكُمْ، أي هي أولى بكم من كل منزل على كفركم وارتيابكم وبئس المصير». من خلال ما تقدم من كلمات أهل اللغة وكلمات المفسرين، فإنّ كلمة المولى يمكن أن تُفسر بالأولى، والبخاري قد استفاد هذا المعنى أيضاً وفسرها طبقاً لأهل اللغة.
الشيخ الأميني لا يستغرب عدم وقوفهم على مفردات اللغة الشيخ الأميني رحمه الله بعد أن ناقش هذا الأمر ـ في موسوعته المشهورة بالغدير ـ وصل إلى نتيجة مفادها: أنهم بعيدون عن أجواء مفردات اللغة العربية وكيفية تفسيرها، لذا لا يستغرب أن تحمل الألفاظ على غير معناها الحقيقي والصحيح، قال: «أنا لا ألوم القوم على عدم وقوفهم على كلمات أهل اللغة واستعمالات العرب لألفاظها، فإنهم بعداء عن الفنّ، بعداء عن العربية، فمن رازي إلى أيجي. ومن هندي إلى كابلي ومن دهلوي إلى... وأين هؤلاء من العرب الأقحاح؟ وأين هم من العربية؟ نعم ـ حن قدح ليس منها ـ وإذا اختلط الحابل بالنابل طفق يحكم في لغة العرب من ليس منها في حل ولا مرتحل». الشواهد التي تدل على أنّ المراد من كلمة المولى هي الإمامة أضف إلى ذلك أنّ هناك قرائنَ وشواهدَ اكتنفت الحديث تؤكد على إمامة علي عليه السلام وخلافته، ونذكر فـي هذا الصدد سبعة شواهد تدل على هـذه الحقيقة.
الشاهد الأول: المقارنة والتوالي في الحديث هناك تقارن في كلمات رسول الله صلي الله عليه و آله ولا يمكن التفكيك والتصرف فيه، فعندما قال: «ألستُ أولى بكم من أنفسكم» قالوا: بلى، ثم قال مباشرة: «من كنت مولاه فهذا علي مولاه..»، فماذا يتبادر إلى الذهن من نطق هذين النصين؟ وما هي الفائدة من هذا التقارن والتوالي؟ أليس هو إعطاء علي عليه السلام هذا المقام الإلهي، ألا وهو الإمامة؟ ومراده صلي الله عليه و آله واضح؛ أنّ كل من يكون رسول الله أولى به من نفسه، فكـذلـك الأمـر ينطبـق تماماً على علي عليه السلام وهو أن يكون أولى به من نفسه، وهذا الأمر في غاية الوضوح.
الشاهد الثاني: تهنئة الخليفة عمر لذا جاء قول الخليفة عمر بالتهنئة له مباشرة بعد تنصيبه لهذا المقام الرفيع.
وهذا ما نجده في الحديث المشهور والصحيح. عن أبي هريرة قال: من صام يوم ثمان عشرة من ذي الحجة كتب له صيام ستين شهراً، وهو يوم غدير خم، لما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيد علي بن أبي طالب، فقال: ألست ولي المؤمنين، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، فقال عمر بن الخطاب: بخ بخ لك يا بن أبي طالب، أصبحت مولاي ومولى كل مسلم، فأنزل الله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ. وإقرار الخليفة عمر لا ينجسم مع معنى النصرة أو عدم العداوة مطلقاً؛ لأنه لو دققنا بكلمات الخليفة عندما قال: «أصبحت مولاي ومولى كل مسلم»، يعني هنيئاً لك يا علي أصبحت أولى بنا جميعاً أنا وجميع المسلمين على حد سواء. أما لو فسرنا الحديث بالمحبة والنصرة، فينتفي موضوع التهنئة؛ لأنّ علياً من أول الأمر هو ناصر لرسول الله صلي الله عليه و آله فلم يضف رسول الله صلي الله عليه و آله شيئاً جديداً يستحق عليه التهنئة.
الشاهد الثالث: آية إكمال الدين لا تنسجم مع النصرة والمحبة في الحديث المروي بسند صحيح عن أبي هريرة، ـ والذي تقدم سابقاً ـ وبعد تهنئة الخليفة عمر له نزل قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ. فإكمال الدين لا ينسجم مع القول بالمحبة والنصرة وعدم العداوة، بل لابد من الإكمال بشخص يمثل الدين وهو الوصي والإمام من بعده صلي الله عليه و آله وهو أمر لا يخفى على أهل البصائر.
الشاهد الرابع: الصحابي حسان بن ثابت ينطق بهذه الحقيقة حسان بن ثابت صحابي وشاعر رسول الله صلي الله عليه و آله كما هو معلوم ولا يحتاج أن نرجع إلى تراجم الرجال، وقد نطق بهذه الشهادة صراحةً؛ وذلك لما فهمه من معنى الحديث، وأنّ المولى في حديث الغدير تعني الإمامة والقيادة بل والهداية، وحسان الشاعر هو الخبير والفصيح بمفردات اللغة، لذلك لم يتوان في الجهر بهذا المعنى، حينما قال: «قالَ له قم يا عليُّ فإنني ٭ رضيتك من بعدي إماماً وهاديا فمنْ كنتُ مولاه فهذا وليُّه ٭ فكونوا له أنصارَ صدقٍ مواليا هناك دعا اللهم والِ وليَّه ٭ وكن بالذي عادى عليّاً معاديا».
الشاهد الخامس: الصحابي قيس بن سعد بن عبادة يشهد بهذه الحقيقة قال في قصيدته المشهورة: وعلي إمامنا وإمام ٭ لسوانا أتى به التنزيل يوم قال النبي من كنت مولاه ٭ فهذا مولاه خطب جليل.
الشاهد السادس: الأخطل يستشهد بكلمة المولى لعبد الملك بن مروان قال الشيخ المفيد: «ومما يدل على ما ذكرناه قول الأخطل ـ وهو رجل نصراني لا يتحيز إلى فرقة من فرق الإسلام، ولا يتهم بالعصبية للشيعة ولا يطعن عليه في العلم باللسان ـ في قصيدته التي يمدح فيها عبد الملك بن مروان، فقد علمت الكافة عداوته لأمير المؤمنين علي ابن أبي طالب عليه السلام: فأصبحت مولاها من الناس كلهم * وأحرى قريش أن تهاب وتحمدا فـمدحـه بالإمامة، ورياسة الجماعة، واقتصر في العبارة على ذلك، وأنه أولى به من الناس كافة على لفظة (مولى)، لإفادتها في اللغة ومعرفة أهلها بأنها عبارة عنه، ودالة على معناه، وهذا بيّن لا خفاء فيه على منصف، ولا ارتياب فيه».
الشاهد السابع: الإمام علي (عليه السلام) يشهد لنفسه بالولاية قال ابن طلحة الشافعي: قد ذكر (عليه السلام) ذلك، وأشار إليه في أبيات قالها، نقلها عنه الثقات، ورواها النقلة الأثبات ما كتبه الأمير(عليه السلام) في أشعاره لمعاوية حيث قال: وأوجب لي ولايته عليكم ٭ رسول الله يوم غدير خُمٍّ. وواضح ما يروم إليه الإمام علي عليه السلام فإنه يحتج على معاوية، ويذكّره بذلك اليوم الذي نصّبه فيه رسول الله صلي الله عليه و آله ولياً وإماماً على جميع المسلمين. وعلي عليه السلام هو إمام الصادقين فلابد من حمل كلامه ومراده على ما أبانه وأفصح عنه، ولا يمكن أن نتعدى إلى غيره من المعاني.
السيد شرف الدين يحكّم العقل مع الشيخ البشري مما تقدم مـن تلك الشواهد والقرائن لا نستغرب عندما واجه السيد شرف الدين مناظرهُ الشيخ سليم البشري بالحق الذي لا مناص منه، حيث قال له: «لو سألكم عن هذا كله تجيبونه بأنّ الله عزَّوجلّ ورسوله صلي الله عليه و آله، إنما أراد بيان نصرته للمسلمين، وصداقته لهم ليس إلا، ما أراكم ترتضون هذا الجواب، ولا أتوهم أنكم ترون مضمونه جائزاً على ربّ الأرباب، ولا على سيد الحكماء، وخاتم الرسل والأنبياء، وأنتم أجل من أن تجوزوا عليه أن يصرف هممه كلها، وعزائمه بأسرها إلى تبيين شيء بين لا يحتاج إلى بيان، وتوضيح أمر واضح بحكم الوجدان والعيان. ولا شك أنكم تنزهون أفعاله وأقواله عن أن تزدري بها العقلاء، أو ينتقدها الفلاسفة والحكماء، بل لا ريب في أنكم تعرفون مكانة قوله وفعله من الحكمة والعصمة، وقد قال الله تعالى: إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَريِمٍ ٭ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مكيِنٍ ٭ مُطَاعٍ ثَمَّ أَميِنٍ ٭ وَمَا صَاحِبكُم بِمَجْنُونٍ. فيهتم بتوضيح الواضحات، وتبيين ما هو بحكم البديهيات، ويقدم لتوضيح هذا الواضح مقدمات أجنبية، لا ربط له بها ولا دخل لها فيه، تعالى الله عن ذلك ورسوله علواً كبيراً».
حصحص الحق الذي لا محيص عنه ثم جاء كلام الشيخ سليم البشري رحمه الله تعالى شيخ الجامع الأزهر على الفور: «قد حصحص الحق بما أشرت إليه من القرائن، فانكشف قناع الشك عن محيا اليقين، ولم تبق لنا وقفة في أنّ المراد من الولي والمولى في حديث الغدير إنما هو الأولى، ولو كان المراد الناصر، أو نحوه ما سأل سائل بعذاب واقع، فرأيكم في المولى ثابت مسلم».
إذن تبين مما تقدم من الشواهد التي ذكرناها بطلان من قال: إنّ معنى المولى هو الصاحب والنصير، والمعنى الصحيح هو بمعنى الأولى بكم، وفي كلّ شؤونكم، وأنه يجب على المسلمين الإقرار والطاعة له، على حد طاعة رسول الله صلي الله عليه و آله بلا فرق في ذلك. خلاصة ونتيجة البحث: من خلال ما تقدم اتضح ما يلي:
1ـ إنّ السبب المعقول لهذا الحديث وهو التبليغ بولاية علي عليه السلام على جميع المسلمين. وهو ما ورد في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبـِّكَ ...، والولاية الحاكمية المطلقة في جميع شؤونهم السياسية والدينية والاجتماعية وغيرها.
2ـ إنّ حديث الغدير له طرق كثيرة، بحيث صرح علماء هذا الفن بأنّ هناك مجلدات نقلت هذه الطرق وهناك من اندهش لكثرتها.
3ـ نقلنا بعض تلك الطرق وذكرنا من اعترف بصحتها وصححنا لبعضها على مباني الجرح والتعديل.
4ـ أنّ حديث الغدير متواتر وصحيح، وهذا ما اعترف به كبار علماء أهل السنة كالذهبي، وابن حجر، وابن كثير، والمناوي، وغيرهم.
5ـ دفع شبهة الدهلوي الذي أنكر على علماء اللغة قولهم أنّ المولى تأتي بمعنى الأولى، وكذلك شبهة التفتازاني الذي قال بأنّ المولى في هذا الحديث معناها هو الناصر والمحب.
6ـ وبهذا اتضح فساد قول ابن حزم وابن تيمية؛ لأنّ من رواه كلهم ثقات والحديث متواتر كما تقدم.
والحمد لله رب العالمين
تعليقات الزوار