توصية لطالب الحكمة
من الطبيعيّ أنّ كلّ طالب غايةٍ لا يمكنه الوصول لغايته ولا يوفّق لنيلها ما لم يُعدّ نفسه إعدادًا مسانخًا لتلك الغاية، فسلوك كلّ طالب غايةٍ لا بدّ أن يكون منسجمًا ومتناسبًا معها؛ وقد اشتُهر عن الحكماء (الغاية تعيّن نحو السلوك).
فطالب المال مثلًا لا بدّ أن يهيّئ نفسه وسلوكه بما يتناسب وتحصيل المال، فيعدّ المقدّمات لذٰلك من تهيئة رأس المال والشروع في دراسةٍ مفصّلةٍ عن أوضاع الأسواق والتواصل مع التجّار وغير ذٰلك ممّا له دخلٌ في تنميته الماليّة.
وكذا طالب العلم لا بدّ له من تهيئة كلّ الأسباب الموصلة لغايته، وأن يسلك السلوك المناسب لذٰلك من حضور دروس العلم والتباحث فيها، ومجالسة العلماء والاستفادة من علومهم.
من هنا ينبغي لطالب الحكمة ـ الّذي هو طالبٌ للتجرّد ـ أن يكون متحلّيًا بجملةٍ من الصفات المعنويّة والنفسيّة الّتي تؤهّله للوصول إلى غايته.
وهذه الصفات بعضها مرتبطٌ بالقوى النظريّة الإدراكيّة، والآخر مرتبطٌ بالقوى العمليّة السلوكيّة، وهي التالي:
الأولى: الصفات المتعلّقة بالقوى النظريّة الإدراكيّة، وهذه القوى بمنزلة المقتضي لدراسة الحكمة؛ إذ لا بدّ أن يمتلك طالب الحكمة قوًى نظريّةً إدراكيّةً قابلةً للتعامل مع المطالب الحكميّة الّتي تمتاز - عادةً - بالدقّة والعمق.
فما لم يتمتّع طالب الحكمة بجودة الذهن وقوّة الحدس لا يمكنه سبر غور تلك المطالب العالية والوصول إلى دقائقها النفيسة.
والّذي نعنيه من جودة الذهن قوّة التصوّر (سرعة الفهم)، ومن قوّة الحدس قوّة التصديق، بمعنى سرعة الوصول إلى إثبات المطالب العقليّة، وبعبارةٍ أخرى قوّة التصديق هي سرعةٌ تمثّل الحدّ الأوسط في الذهن(1).
ولعلّ الشيخ ابن سينا في مقدّمة كتابه (الإشارات والتنبيهات) يشير إلى هٰذا المعنى في خطابه لطالب الحكمة بقوله: «أيّها الحريص على تحقيق الحقّ، إنّي ممهّدٌ إليك في هٰذه الإشارات والتنبيهات أصولًا وجملًا من الحكمة، إن أخذت الفطانة (الذكاء) بيدك سهل عليك تفريعها وتفصيلها» (2).
وعن الحكيم سقراط أنّه قال: «لا يعلم العلم الإلٰهيّ إلّا كلّ ذكيٍّ صبورٍ؛ لأنّه لا تجتمع الصفتان إلّا على الندرة؛ إذ الذكاء يكون من ميل مزاج الدماغ إلى الحرارة، والصبر يكون من ميله إلى البرودة، وقلّما يتّفق الاعتدال الّذي يستويان فيه ويقوّمان به»(3).
الثانية: الصفات المتعلّقة بالقوى العمليّة السلوكيّة، وهذه على نحوين:
النحو الأوّل: ما تكون بمنزلة الشرط لدراسة الحكمة، فالطالب للحكمة لا بدّ أن يكون فاضلًا مؤمنًا متديّنًا متعبّدًا خيّرًا لا شرّيرًا؛ لأنّ الشرّير ـ بتعبير الحكماء ـ لا يطأ بساط الحكمة، وعن أرسطو أنّه قال: «من أراد الحكمة فليستحدث لنفسه فطرةً أخرى»(4).
النحو الثاني: وهذا بمنزلة عدم المانع، وهو أن يتجنّب طالب الحكمة كلّ ما يعكّر صفو نفسه ويشوّش ذهنه؛ فإنّ ذٰلك ممّا يمنع تحصيل الحكمة، ومن الأمور الّتي تؤثّر في ذٰلك كثرةُ الطعام، فإنّه ورد في الأثر: «كثرة الطعام تميت القلب كما تميت كثرة الماء الزرع»(5). وكذٰلك كثرة الكلام والمخالطة مع الناس. ولكي يتوجّه طالب الحكمة إلى المطالب الحكميّة العقليّة؛ فلا بدّ أن يتّسم بالصمت والتأمّل في أغلب أوقاته؛ فقد ورد عن رسول الله q: «إذا رأيتم الرجل قد أُعطي زهدًا في الدنيا وقلّة منطقٍ(6)، فاقتربوا منه، فإنّه يُلقّى الحكمة»(7).
ومن باب أولى أن يجتنب طالب الحكمة المعاصي؛ لأنّها تحجب نور العلم، كما في الشعر المنسوب للشافعيّ الّذي يقول فيه:
شكوت إلى وكيعٍ سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأنّ العلم نــــــــــــورٌ ونور الله لا يُهدى لعــــاصِ(8)
الهوامش:
1. سوف يأتي في صناعة البرهان تفصيلٌ عن الحدّ الأوسط.
2. المحقّق الطوسيّ، شرح الإشارات والتنبيهات، ج 1، ص 5.
3. الداماد، محمدباقر، الصراط المستقيم، ص 10.
4. المصدر السابق.
5. ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 20، ص 325. وفي أحاديث أخرى: "تقسّي القلب".
6. من النطق، والمقصود قلّة الكلام.
7. ابن ماجة، سنن ابن ماجة، ج 2، ص 1373. ولها ما يشابهها في كلمات الإمام عليّ بن أبي طالب A.
8. الشافعيّ، محمد بن إدريس، ديوان الشافعيّ، ص 88.
تعليقات الزوار